بصرف النظر عن الانتماءات السياسية سواء للاخوان أو لليسار أو غيره ، فليست شخصية "المتدين عموماً " بهذه الانتهازية والدناءة التى صورها مسلسل " أستاذ ورئيس قسم " المعروض حالياً ، وفى المقابل ليست شخصية " المتحرر" – سواء كان يسارياً أو غير ذلك - فى الواقع بهذه المثالية الأسطورية. يبدو هذا الطرح متكررا مع الفنان عادل امام بالذات ، لكن الجديد هنا هو ربطه بمعالجة قضية الثورة وتفاصيلها ، وهى القضية التى أضرت بها الصراعات الأيديولوجية والفكرية ، وفى الوقت الذى تمنيت ألا يتدخل " الاسلاميون " وغيرهم فى مشروع الثورة ليكتب له النجاح بالاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المأمولة التى خرج الشعب من أجلها وحتى لا تجهض هذه الأحلام البيضاء البريئة بتوظيف طموحاتهم وصراعاتهم وتصعيداتهم المتوقعة – ولى فى ذلك مقالات فى حينها كانت تنشر فى موقع اسلامى مشهور – تمنيت فى الوقت نفسه أن يكون لهم نشاط فنى وثقافى واجتماعى مواز ، يناهض ما يقوم به الفنان عادل امام وغيره لعرض وجهات النظر الأخرى ، بدلاً من التركيز على صراعات الحكم والسلطة ، اذ ليس من المنطقى الهجوم على الفن ، وليس لك باع فيه ولا ظهير لك يحميك فى ميادينه وساحاته. ولو بدأت الحركة الاسلامية البداية الصحيحة كحركة تغيير واصلاح اجتماعى لها اهتمام بالطبع بالسياسة لكن ليس بأسلوبها التقليدى أن يكون همها الوحيد هو كيف تقفز الى السلطة ، انما يغلب على ذلك الأداء الجماهيرى الاجتماعى بوسائله العصرية لايقاظ الوعى والتثقيف وعرض القيم الايجابية والشخصية المصرية والواقع المصرى بشكل منصف ومتوازن ، لكن الاسلاميين يسيرون فى الطريق الخطأ منذ قطع حلقة محمد عبده الاصلاحية وانطلاقاً من توجه رشيد رضا السياسى الذى ورثه لمن بعده الى اليوم، فيتركون آفاق التغيير والاصلاح الاجتماعى الرحبة ويحشرون أنفسهم فى زقاق السلطة الضيق. عادل امام يعمل فى ساحة فراغ بكامل حريته وسواء كان يسارياً أو علمانياً فهو بذل جهده الابداعى – اتفقنا معه أو اختلفنا – فى الانتصار لتوجهه الفكرى ، لكن السؤال هنا على الجانب الآخر: أين الجهد الابداعى الموازى، وأين المبدع والمثقف والفنان الذى يطرح وجهات النظر الأخرى ، خاصة أن الفن ميدان لا يعترف بالصراخ والادانة انما بالتنافس ، والجمهور هو الذى يحكم فى النهاية . من القضايا الاشكالية المهمة التى أعقبت صعود الحركة الاسلامية الى الحكم ممثلة فى جماعة الاخوان المسلمين ، التوجه نحو تصفية حسابات قديمة مع فنانين كانت ولا تزال أعمالهم مثار جدل واسع وأمامها الكثير من علامات الاستفهام ، ولكونها أثارت غضب ورفض الكثيرين حتى من خارج الحركة الاسلامية عند عرضها ، وخاصة فيما يتعلق بأعمال الفنان الكوميدى عادل امام المسرحية والسينمائية . ولا شك أن أعمال الفنان عادل امام تستحق وقفات طويلة من زوايا عدة ، لكن مهما كانت قوة وانتشار الرؤى والأطروحات النقدية التى تؤاخذ هذه الأعمال على تعميماتها غير المنطقية وتوظيفها لأغراض سياسية وافتقادها للانصاف فى عرض شخصية المتدين عموماً ، فان هذا الجهد سيبقى منقوصاً وضئيل الأثر اذا لم يصحبه الحضور الابداعى الموازى التنافسى الذى يعرض وجهات النظر الأخرى بصورة فنية احترافية ، أما الاكتفاء بمعالجة القضية من خلال الدعاة والمشايخ بالهجوم المتواصل المباشر فالنتيجة بلا شك كارثية ، ليس لأنها بدون تأثير يذكر فى الانتصار لوجهات النظر المناهضة لتلك الأعمال جماهيرياً ، انما لأنها تكرس من تلك الفرضية التى يستميت البعض فى ترسيخها وترويجها على نطاق واسع ، وهى أن الحركة الاسلامية – بل والمتدينين عموماً – معادون للابداع ، كارهون للفن وغير قادرين على العطاء فى ساحاته أو حتى تلقيه نقدياً والرد على أطروحاته فناً بفن وفكراً بفكر وابداعاً بابداع . ما حدث فى التعامل مع الفنان عادل امام – بصرف النظر عن الحكم على أعماله فتلك قضية أخرى – يدل على قصور شديد فى الرؤية والتصورات وعلى غياب البرنامج النقدى المنهجى الشامل الذى يتيح تحركات ومواقف وممارسات منضبطة وحذرة ومحترفة ، سواء فى العطاء الفنى والثقافى أو فى كيفية التعامل مع الواقع الثقافى عموماً ورموزه ومدارسه المختلفة .. والذى حدث أنه لم يتم التعامل مع عادل امام لا بالتنافسية التكاملية الابداعية الموازية ولا بالحضور النقدى الراقى ، وان كان هناك بعض نقاد الفن المعروفين قد تناولوا وعالجوا هذه الأعمال فى بعض مقالات متناثرة ، انما تم التعامل معه بروح انتقامية واجراءات ثأرية ، فعمد البعض الى نقل القضية الى ساحات القضاء الذى أصدر حكمه بحبس الفنان عادل امام ثلاثة أشهر وألف جنيه غرامة بتهمة السخرية من الجماعات الاسلامية وازدراء الأديان ، وفرح الكثيرون وهللوا وظنوه انتصاراً لهم على عادل امام ، وبالطبع كان انتصاراً وهمياً ومجرد تشفى ثأرى لا أكثر ، وما هكذا تورد الابل فى ساحات الابداع والفن ، بل حتى لو سارت الأمور على هوى الكثيرين وتم حبسه فالقضية أيضاً خاسرة لأنه سيروج لها اعلامياً فى خانة الحجر على الابداع والمبدعين ومعاداة الفن ورموزه ليصبح عادل امام ساعتها البطل المضطهد ، أما القضايا العادلة من مناصرة وجهات النظر الأخرى ابداعياً وعرض الصورة الصحيحة والمنصفة والواقعية للمتدين فى الفن فلم تجد من يدافع عنها ويتبناها برؤى مدروسة وبمنهج محدد وواضح الملامح. الأمور كانت ستختلف كثيراً لو تصورنا حضوراً ابداعياً فنياً تنافسياً من البداية ، أما العزلة السلبية فهى تتيح هذه المساحة التى من شأنها استغلال المواهب وتوظيفها فى قضايا فكرية وسياسية ، والممثل فى الغالب دوره ثانوى بالمقارنة بدور المخرج والكاتب والمنتج، فالأفكار من صناعة الكاتب والساحة الفنية تفتقر لحضور الكتاب ذوى الخلفيات والمرجعيات الاسلامية الا فى القليل ، ومن يحمل هذا النهج لا يبرع سوى فى الأعمال التاريخية ولا يميل للأعمال ذات الأبعاد السياسية والفكرية ، ومعظم من كتبوا أعمال الفنان عادل امام وأخرجوها توجهاتهم السياسية والفكرية معروفة ، فضلاً عن موهبة هذا الفنان الكبيرة وقدراته الكوميدية الهائلة وجماهيريته الواسعة. فضلاً عن التسليم بفرضية كون الممثل يدافع عن انتمائه الفكرى ومواقفه السياسية ، فهذا سنجده فى حالات نادرة ، لأن الممثل عموماً أداة ، وهناك ممثلون على الساحة غير عادل امام لن يرفضوا القيام بأدوار قوية تنتصر للجانب الايجابى فى الشخصية المصرية – ومن ضمنها شخصية المتدين - . نحن لا ننظر الى القضية من هذا الجانب مطلقاً رغم أنها تكاد تكون النافذة الوحيدة التى من خلالها نتمكن من تقليل تأثير الهجمات العنيفة من خلال الشاشات والمسارح على المتدينين وعلى شخصية المتمسك باسلامه وأخلاق دينه – بصرف النظر عن الاسقاطات السياسية - ، فالساحة لا ينبغى أن تكون حكراً على كتاب ومؤلفين ذوى توجه فكرى واحد وانما ينبغى التنوع وتمثيل كل الأطياف والانتماءات فى المجتمع المصرى ، ويبقى الممثل أداة يتم توجيهها وتوظيفها لايصال الفكرة والرسالة ، وبافتراض بروز شخصية الممثل فلا شك أن الوضع كان سيختلف مع وجود التنوع وحضور التنافسية ، بل ان عادل امام نفسه له أعمال ايجابية مؤثرة كمسلسله الدرامى الشهير " دموع فى عيون وقحة " الذى تناول الصراع مع العدو الصهيونى ، والممثل والفنان يذهب الى حيث العمل الفنى الرابح الناجح والسبب الرئيسى فى كثافة الأعمال تجاه ابراز سلبيات ونقائص شريحة بعينها من المجتمع مع تصوير التيارات الأخرى – أو الشرائح المجتمعية الأخرى - كمثاليين عصاميين وهذا واضح ومكرر فى أعمال الفنان عادل امام وعلى رأسها " الارهابى " و "طيور الظلام " و " الارهاب والكباب " ، كان لغياب التنافسية وسيطرة فكر واحد وتوجه واحد وانتماء فكرى واحد على الساحة الفنية ، فليست هناك فرص للاختيار والمفاضلة سواء للممثل والفنان أو للجمهور . التحفظ ليس فقط على الأعمال التى تقدم شخصية المتدين على غير الحقيقة أو أنها تقدم فقط النموذج السلبى الذى يمثل فقط نسبة ضئيلة جداً من مجموع عموم المتدينين المحبين لدينهم والملتزمين بقيمه وأخلاقه ، وتلك القيم والأخلاق هى التى تدفعهم للعمل والنضال والانتاج والمشاركة والابداع ليمثلوا قوة لا يستهان بها فى نهضة الوطن ، لكن أيضاً لكون أعمال الفنان عادل امام لا تخلو من المشاهد الساخنة وتعمد العرى ، وفى فيلمه " التجربة الدنماركية " أظهر الشعب المصرى كمتعطش للجنس يتدلى لسانه اذا رأى امرأة كاشفة عن أجزاء من جسدها ، كذلك فى فيلمه " السفارة فى العمارة " ، وفيلمه " عمارة يعقوبيان " ، واعتبر النقاد – ومنهم الناقد طارق الشناوى – فيلمه " بوبوس " أسوأ ما قدمه ، على اعتبار اعتماده كلياً على الافيهات الفاضحة والقبلات والمشاهد الجنسية بدون أى مبرر درامى .. اذاً هناك تعمد لاظهار الواقع المصرى ككل – وليس شخصية المتدين فقط – على غير الحقيقة واغفال الجانب الايجابى فى الشخصية المصرية عموماً . الخلاصة هنا قبل أن نكمل هذا الموضوع الحيوى فى مقال لاحق ، هو أن الفنان عادل امام " أستاذ ورئيس قسم " فى استغلال فراغ الساحة الثقافية والفنية من مبدعين يطرحون وجهة النظر الأخرى بشكل ايجابى بنفس القوة والاحترافية . هو كمن يلعب مباراة منذ عقود بدون فريق منافس ، ويضع أهدافاً فى مرمى خال بدون حارس.