منذ بداية العام الجاري دخلت مفاوضات إعادة تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل إلى حيز التنفيذ والذي سيبرم الاتفاق عليه في غضون الأيام القليلة القادمة، لتعود العلاقات بين أنقرة وتل أبيب إلى سابق عهدها قبل حادثة السفينة "مرمرة"عام2010، وهي الحادثة التي أعقبها تجميد العلاقات بين الدولتين، والتي لم تعود إلى سابق عهدها حتى بعد اعتذار رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، المقتضب الذي تمثل في مكالمة هاتفية وبيان من مكتبه. فالعلاقات التركية الإسرائيلية التي كانت تتسم بأنها الأكثر عمقاً وازدهاراً على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية على مستوى العلاقات بين دول المنطقة أصبحت مسألة إعادتها إلى هذا المستوى رهن مآلات السياسة الإقليمية وتعدد أطرافها وليس فقط على مستوى ثنائي بين أنقرة وتل أبيب، ناهيك عن استثمار كل من الحكومتين في تل أبيب وأنقرة –وخاصة أنقرة- لهذه المسألة في تحقيق مكاسب دعائية وسياسية داخلياً وخارجياً. وذكرت كل من صحيفتي "هآرتس" الإسرائيلية و "حرييت" التركية أن اجتماع بين مسئولين في الخارجية والاستخبارات في الدولتين سيجتمعون الأحد المقبل لبحث الخطوات الأخيرة في إعادة العلاقات ما بين أنقرة وتل أبيب في شكل اتفاق مصالحة لم يعلن عن بنوده كلها باستثناء التزام الجانب الإسرائيلي بتنفيذ تعهدات بالاعتذار عن حادثة "مرمرة" وتعويض ضحاياها مادياً، وأنه من المتوقع أن يُعلن في نفس اليوم إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بينهم، وذكرت الصحيفة التركية أنه بالإضافة إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية فإنه من المتوقع أن يتم استئناف العلاقات الاقتصادية في مجالات الطاقة والتعدين وكذلك العلاقات العسكرية والأمنية التي كانت قد جمدت في أعقاب الحادثة سابقة الذكر، ومنها المناورات العسكرية المشتركة بين الدولتين والتي كانت تقام بشكل دوري منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي. وبخصوص ما يتعلق بغزة في اتفاق المصالحة بين تركيا وإسرائيل، ذكرت "حرييت" أنه بدلاً من رفع الحصار عن غزة كما اشترطت أنقرة فأن تل أبيب ستسمح للجانب التركي ببناء مستشفى في غزة مدعوم بالتجهيزات الطبية والكوادر الفنية مع تعهدات إسرائيلية بعدم عرقلة عمله أو نقل الدواء والمعدات الطبية من تركيا إليه، بالإضافة إلى احتمال أن تمول أنقرة بناء محطة لتحلية المياه بتكنولوجيا إسرائيلية سيكون مقرها غزة. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ أن كان يشغل منصب رئيس وزراء بلاده يشترط لعودة العلاقات بين أنقرة وتل أبيب أن تقوم الأخيرة بالاعتذار الرسمي للحكومة والشعب التركي ورفع الحصار عن قطاع غزة، وهو ما حدث عام 2013، وإن بقيت العلاقات بين أنقرة وتل أبيب دون ما قبل 2010، خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة 2014 تلاقت الدولتان؛ حيث وقعت غزة بين رحى الصراع بين المحور التركي-القطري والمحور المصري السعودي، وذلك على خلفية ما حدث في الثلاثين من يونيو 2013 والإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر الذي اتخذ نظامها الجديد موقفاً معادياً من حركة حماس بسبب ارتباطها العضوي بجماعة الإخوان واعتراضها على ما حدث من الإطاحة بهم، وهو ما جعل دور الوسيط التقليدي الذي تضلع به القاهرة بين القطاع وبين إسرائيل غير مُجدي ومشكوك في فعاليته، وهو ما سمح لتركيا بتمرير ورقة مبادرة لهدنة طويلة الأمد بين إسرائيل وحركة حماس استقبلها كل من الطرفين بإيجابية على الرغم أنها تعني بالنسبة لحماس تصفية المقاومة المسلحة عملياً وتحول الحركة لنسخة مكررة من سلطة رام الله، وذلك مقابل مكاسب محدودة من بينها ميناء بإشراف دولي في القطاع. ولكن سرعان ما تم إجهاض هذه التسوية التركية-القطرية التي كانت بالأساس تستهدف الدور المصري الخاص بغزة وإبعاده والاستئثار بها كورقة ضغط وترغيب في ضبط العلاقات مع إسرائيل، فجاء الضغط الإيراني على حركة حماس أن يتم القبول بورقة المبادرة المصرية على عيوبها والتي يمكن البناء عليها مستقبلاً، لا المبادرة التركية التي تصفي وتنهي مفهوم المقاومة. وباستثناء السابق، فإن نقاط التماس بين إسرائيل وتركيا ظلت في مربع تداعيات حادثة "مرمرة" ومفاوضات إعادة تطبيع العلاقات بينهم وهو ما لم يكفله اعتذار نتنياهو المقتضب عبر الهاتف في 2013، بل وصممت الحكومة التركية على ثلاث شروط وهي اعتذار إسرائيل بشكل واضح وعبر قنوات رسمية موثقة وتعويض ضحايا الحادثة، وأخيراً رفع الحصار عن غزة، والشرط الأخير وهو الأهم بدأ التزحزح عنه من الجانب التركي منذ بداية العام الجاري، وطرح بدائل لرفع الحصار البحري عن القطاع، مثل أن يتم افتتاح ممثلية رسمية لحكومة غزة في أنقرة تعمل على تحويل النقود والبضائع منها إلى غزة بالتعاون ومراقبة الجانب الإسرائيلي، وهو ما قُدم لقادة حماس من الجانب التركي كالسقف الأقصى الذي استطاعت أن تصل إليه أنقرة بعد سنوات من شروط –أتضح أنها شعارات دعائية- تركية على رأسها رفع الحصار على القطاع، الذي سرعان ما تقلص بحسب الدوافع والاستعجال التركي-الإسرائيلي لإعادة العلاقات بينهم لما كانت عليه قبل 2010، وذلك الأمر أنعكس حتى على علاقة حركة حماس بأنقرة، فمنذ مطلع العام الجاري وتدور أحاديث في أروقة الحركة عن توتر العلاقات بين رئاسة المكتب السياسي والنظام التركي وانخفاض وتيرة زيارات مسئوليه إلى تركيا علاوة عن المضايقات التي تكتنف زيارتهم أو وجودهم، وأخرهم كان صالح العاروري عضو المكتب السياسي للحركة والذي تم ترحيله من تركيا أواخر العام الماضي ذلك بخلاف البرود الذي ساد العلاقات التي كانت تعرف ب"الودية والخاصة" بين مسئولي حماس والمسئولين الأتراك؛ فلأول مرة يغيب رئيس المكتب السياسي لحماس، خالد مشعل، عن احتفالات العدالة والتنمية السنوية ومؤتمر الحزب العام الذي كان يحل عليه ضيفاً معتاداً، أو حتى غيابه عن مناسبات شخصية خاصة بالمسئولين الأتراك وعلى رأسهم أردوغان، مثل حفل زواج ابنته الشهر الماضي. وبحسب أنباء انتشرت منذ بداية العام الجاري، فإن السبب الرئيسي للخلاف بين حماس وتركيا جاء حول رفض الحركة لاشتراط تركيا المسبق بالإعلان عن مصير الأسرى الثلاثة الإسرائيليين الذين تحتجزهم الحركة منذ الحرب الأخيرة وقبولها كذلك بوساطة تركية في صفقة إفراج متبادلة بينهم، وهو كان بالأساس طلب إسرائيلي لتركيا إزاء هرولة الأخيرة نحو إعادة العلاقات مع تل أبيب منذ العام الماضي، وهو ما رفضته حماس، وقابله أيضاً رفض إسرائيلي من أحزاب المعارضة وبعض مكونات الائتلاف الحاكم في إسرائيل الذين رهنوا اتفاق المصالحة بين تل أبيب وأنقرة بإطلاق سراح الجنود الأسرى أو على الأقل الكشف عن مصيرهم. وكاستنتاج عام، فإن تركيا إزاء دوافع وأولويات جديدة فرضها الواقع الإقليمي المتغير والذي يميل لغير صالحها خلال الأعوام الثلاث الأخيرة في كافة الملفات، فأنها لجأت إلى التعجيل بالمصالحة لإسرائيل، خاصة مع إخفاق سياساتها الخارجية وفقدانها لكل حلفائها في المنطقة –باستثناء قطر- وأن تحالفها الجديد منذ العام الماضي مع السعودية لن يكون مثمراً إذا كان غير مرتبط بمصالحة مماثلة مع إسرائيل تعيد العلاقات بينهم إلى مربع التحالف كما كان الحال منذ التسعينيات في القرن الماضي، وسيكون حافز إضافي يدفع بعلاقاتها الإقليمية إلى الأمام خاصة مع مناخ التقارب العربي-الإسرائيلي الذي تقوده السعودية التي تعمل على تسوية خلافات أنقرة مع مصر، والتي بدورها تمتلك علاقات مزدهرة مع إسرائيل، وبالتالي فإن قطاع غزة والعلاقات مع حركة حماس جاءت في مؤخرة أولويات السياسة التركية الحالية، بل أنه يمكن القول أن هذه العلاقات أصبحت بمثابة عائق وحمل زائد على تركيا في توجهها الجديد ناحية تسوية الخلافات مع إسرائيل بشكل خاص، وناحية مشاركتها كقوة إقليمية في التسوية المرتقبة وإعادة التموضع الإقليمي بعد مرحلة "داعش" بينها وبين مختلف دول المنطقة.