وإذ قد مرت بنا في المقالات السابقة مناقشات لمسالك أناس ينظرون إلى تراث الفقهاء على أنه الكلمة الأخيرة، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن ثم لا يحتاج هذا التراث عندهم إلى قراءة واعية ناقدة، ولا تجوز فيه المراجعة إلا في أضيق الحدود عند بعضهم، ولا تساوي الدعوة إلى التجديد والاجتهاد عندهم إلا الدوران في فلك أقوال الماضين والتخريج عليها، ويكاد هذا التراث في نظرهم أن يتماهى مع نصوص الوحي ذاته، فلا يفرقون بين إلهية الوحي وبشرية فهم الوحي. نناقش في هذا المقال مسلكا آخر في المواجهة مع أولئك الأولين، مسلكا يرى أنه يجب تجاوز كل التراث القديم، وأنه لا شئ فيه يستحق الإبقاء عليه، وأن التراث جميعه متلون بلون عصره الذي كتب فيه، ولا يصلح بحال أن يحكم عصرنا الحاضر، ويرى أصحاب هذا الفريق أنه لا يجوز بحال أن نعير هذه الاجتهادات السابقة بالًا، وأنه ينبغي البدء من حيث بدأ الفقهاء لا من حيث انتهوا، لأن عقولنا كعقولهم، والمتاح لنا في عصر انفجار المعرفة أضعاف أضعاف ما أتيح لهم، ومن ثم فإذا أردنا تشريعات تناسب عصرنا فلابد أولًا من إهالة التراب على هذا التراث، ولابد من طي صفحته، والتعامل مباشرة مع نصوص الوحي دون أدنى التفات إلى ما فهمه الأقدمون من هذه النصوص، مع اعتبار مناهج الأقدمين في الفهم والاستنباط عند بعضٍ، وعدم هذا الاعتماد عند بعضٍ آخر. وننطلق في مناقشة هؤلاء من نقطة أولى ونتساءل، هل جميع الأحكان الشرعية التي استنبطها الفقهاء السابقون فعلا بنيت على أعراف أزمانهم، فيجدر أن تتغير بتغير هذه الأعراف؟ والجواب الذي أراه أن الأحكام الفقهية منها ما بني بلا ريب على عرف سابق بناء خالصا، فيجب تغييره مع تغير هذا العرف، وهو ما حصل فعلا من الفقهاء أنفسهم في زمن متقارب أو في أماكن متقاربة، وآية ذلك الواضحة أن الشافعي غير كثيرا من اجتهاداته لما انتقل من العراق إلى مصر؛ حتى صار له مذهبان يعبرون عنهما بالجديد والقديم، ونجد كذلك مثلا في المذهب الحنفي خلافا بين صاحب المذهب أبي حنيفة النعمان، وبين صاحبيه شريكي التأسيس أبي يوسف ومحمد، ثم يعبر الفقهاء عن بعض هذا الخلاف فيقولون هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان. لكن على الجانب الآخر هناك الكثير من الاجتهادات لم يتدخل فيها أبدا عرف معين، بل هي وليدة التأمل والاجتهاد في النصوص وحدها طبقا لمناهج علمية محددة لها صفة التجريد عن الجزئيات التفصيلية، وهذه الاجتهادات داخلة في جميع أبواب الفقه حتى لا يزعم البعض أنها قاصرة على بعض الأحكام في العبادات التي يستوي في معرفتها الخاص والعام من الناس، فمثلا في أحكام الزواج لابد من صيغة الإيجاب والقبول ومن شهادة الشهود، ولابد أن لا تكون المرأة محرمة على الرجل كأخته وأمه وبنته وهكذا، فهل يستطيع أحد أن يزعم تجاوز هذا النوع من الأحكام لمجرد أنه من التراث القديم!!، وفي البيوع مثلا نجد أنه لابد أن يكون المبيع معلوما للمشتري، ولا يجوز أن يكون المبيع خمرا أو خنزيرا إذا كان العاقد مسلما، فهذه أحكام ثابتة لا تتغير؛ لأنها لم تبن على أعراف خاصة بأزمنة، بل بنيت على نصوص من القرآن أو السنة النبوية، نعم قد تختلف وسائل العلم بالمبيع في عصرنا الذي عرف طرقا لتقييم جودة المبيع وتحليل مواصفاته ومدى مطابقتها للأوصاف القياسية، لكن لم يسقط أبدا اشتراط العلم بالمبيع حتى تصح عملية البيع نفسها. ونخلص من هذا أنه ليس كل التراث بني على الزمان الذي وجد فيه هذا الفقيه أو ذاك، بل منها ما بني على وحي السماء الذي لا يأتيه الباطل أبدا، فلابد أن يوضع ذلك في الحسبان، ويوضع كل في منزلته. على أن بعضا من هذا الذي استند على النص وحده دون العرف قد دخل فيه العنصر البشري فهما؛ فيبقى الباب مفتوحا لأن يجتهد في فهمه والاستنباط منه مجتهدون آخرون طالما التزموا المنهج العلمي في التعامل مع النصوص وتجردوا لإدراك الحقيقة، لا للتملص من أحكام الوحي واتخاذ الهوى إلهاً. ثم من ناحية ثانية نقول إن التراث الفقهي فيه مئات الألوف من المسائل، واستجدت في عصرنا عشرات الألوف أخرى، ففي سبيل الاهتداء بوحي السماء هل لدينا الوقت الكافي والطاقة لنبدأ من نقطة الصفر ونعيد النظر في كل التراث؟ أم ينبغي علينا أن نشكل العقلية الفقهية الناقدة الواعية لتنطلق في ضبط إيقاع الحياة بالأحكام الشرعية مستصحبة هذا التراث الفقهي الكبير فتأخذ منه وتدع بمنهج ووعي، وطبقا لسلم أولويات حاجات المعاصرة تريد الاندماج في هداية الوحي، لا طبقا لأجندات تفرض من هنا أو هناك. إن طبيعة العلوم التراكم المعرفي، ولا يُبدأ أبدا في علم مع تجاوز جهود السابقين، لا سيما إذا كانوا على قدر من التميز والخبرة، والفقه علم بل هو أولى بوصف العلم من كثير مما يطلق عليه علوم، ذلك أن تعريفه وموضوعه ومسائله واضحة، ومناهجه مضبوطة معروفة، ساهمت فيها عقول كبيرة وضبطتها ونقحتها وصارت تتيه على الدنيا قائلة: ائتوني بمثله إن كنتم صادقين. وليس معنى ما وجهناه من نقد، رآه البعض لاذعا في المقالات الأربعة السابقة، أننا نهون من شأن هؤلاء الفقهاء، بل إنني أقول إن التتلمذ على كتب هؤلاء والوعي بتراثهم والتزام المنهجية العلمية التي برعوا فيها هو خير ما يوجد هذه العقلية الناقدة. على أنه لا ينبغي أن يقتصر النقد على تراثهم، بل يتجاوز ذلك إلى نقد الانتقادات الواردة عليهم إن أردنا البحث الحر وإعلاء قيمة العقل والاجتهاد. بقي أن نذكر أن الهدف الكلي من هذه السلسلة من المقالات هو أن نصل إلى طريق وسط لا يقدس التراث تقديسا يعطل تفعيل الوحي في واقعنا المعاصر، ولا يعتبره كلا شئ، بل يحسن فهمه ثم نقده ثم الانطلاق في اجتهاد جديد. والله الموفِق والمستعان.