مركز الابتكار يتعاون مع «إكسيد» لتطوير تطبيق أتمتة ضمان الجودة بمراكز الاتصالات    «التخطيط» تعلن خطة المواطن الاستثمارية لمحافظة الإسماعيلية للعام 2023/24    نتنياهو يرفض مطالب حماس بإنهاء الحرب مُقابل إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين    الاحتلال يعتقل 25 فلسطينيا في الضفة الغربية بينهم فتاة من القدس بزعم حيازتها سكين    البطريرك كيريل يهنئ «بوتين» بمناسبة عيد الفصح الأرثوذكسي    إجراء جديد من الأهلي بشأن محمود متولي    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    نفوق 12 رأس ماشية في حريق حظيرة مواشي بأسيوط    البابا تواضروس الثاني يتلقى تهنئة آباء وأبناء الكنيسة بعيد القيامة    «خليك في البيت»..تعرف على خريطة سهرات أعياد الربيع على الفضائيات (تقرير)    «مراتي قفشتني».. كريم فهمى يعترف بخيانته لزوجته ورأيه في المساكنة (فيديو)    هل يجوز أداء الحج عن الشخص المريض؟.. دار الإفتاء تجيب    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    رئيس مدينة مرسى مطروح يعلن جاهزية المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين لاستقبال طلبات التصالح    موعد مباراة الأهلي والهلال في الدوري السعودي.. المعلق والقنوات الناقلة    حمدي فتحي: استحقينا التتويج بكأس قطر.. وسنضع الوكرة في مكانة أكبر    «الزراعة» تواصل فحص عينات بطاطس التصدير خلال إجازة عيد العمال وشم النسيم    قبل ساعات من انطلاقها.. ضوابط امتحانات الترم الثاني لصفوف النقل 2024    موعد عودة الدراسة بالجامعات والمعاهد بعد عيد القيامة واحتفالات شم النسيم 2024    ندوتان لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية بمنشآت أسوان    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    قوات روسية تسيطر على بلدة أوتشيريتينو شرقي أوكرانيا    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    اعرف حظك وتوقعات الأبراج الاثنين 6-5-2024، أبراج الحوت والدلو والجدي    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة بطوخ    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    ميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع إنتر ميامي بفوز كاسح    اتحاد الكرة يلجأ لفيفا لحسم أزمة الشيبي والشحات .. اعرف التفاصيل    «شباب المصريين بالخارج» مهنئًا الأقباط: سنظل نسيجًا واحدًا صامدًا في وجه أعداء الوطن    بين القبيلة والدولة الوطنية    في إجازة شم النسيم.. مصرع شاب غرقا أثناء استحمامه في ترعة بالغربية    أمن جنوب سيناء ينظم حملة للتبرع بالدم    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    وفد أمني إسرائيلي يعتزم الاجتماع مع إدارة بايدن لمناقشة عملية رفح    استشهاد ثلاثة مدنيين وإصابة آخرين في غارة إسرائيلية على بلدة ميس الجبل جنوب لبنان    الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب 3 مج.ازر في غزة راح ضحيتها 29 شهيدا    حكومة نتنياهو تقرر وقف عمل شبكة الجزيرة في إسرائيل    أنغام تُحيي حفلاً غنائيًا في دبي اليوم الأحد    بالتزامن مع ذكرى وفاته.. محطات في حياة الطبلاوي    جناح مصر بمعرض أبو ظبي يناقش مصير الصحافة في ظل تحديات العالم الرقمي    الليلة.. أمسية " زيارة إلى قاهرة نجيب محفوظ.. بين الروائي والتسجيلي" بمركز الإبداع    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    دعاء تثبيت الحمل وحفظ الجنين .. لكل حامل ردديه يجبر الله بخاطرك    التنمية المحلية: استرداد 707 آلاف متر مربع ضمن موجة إزالة التعديات بالمحافظات    بالصور.. صقر والدح يقدمان التهنئة لأقباط السويس    لتجنب التسمم.. نصائح مهمة عند تناول الرنجة والفسيخ    صحة مطروح تطلق قافلة طبية مجانية بمنطقة أولاد مرعي والنصر لمدة يومين    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة في طوخ    الأهلي يجدد عقد حارسه بعد نهائي أفريقيا    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    السيطرة على حريق شقة سكنية في منطقة أوسيم    ضبط دهون لحوم بلدية غير صالحة للاستهلاك الآدمي في البحيرة    المديريات تحدد حالات وضوابط الاعتذار عن المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية    «التعليم»: المراجعات النهائية ل الإعدادية والثانوية تشهد إقبالا كبيرًا.. ومفاجآت «ليلة الامتحان»    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«فقه الواقع».. لا يرفع شعار «كل شىء حلال»

يعتقد البعض أن فقه الواقع إباحة كل شيء، وهذا فهم مغلوط ومغرض، فهناك ضوابط وثوابت وحدود، لا يجوز تجاوزها أو غض الطرف عنها، وقد حمل كتاب «فقه الواقع وأثره في الاجتهاد» لمؤلفه الدكتور ماهر حسين حصوة، على عاتقه مسئولية رسم معالم واضحة لفقه الواقع، بحيث تتمايز ساحته عن بقية الساحات في الجسم الفقهي، وذلك من خلال بيان مفهوم فقه الواقع، وأهميته للاجتهاد، وتأصيله بالاستدلال له من الكتاب والسنة واجتهاد الصحابة والمصادر التبعية، إضافة إلى تبيين أثره في الاجتهاد وبناء الأحكام؛ من خلال التمييز بين النصوص التي يؤثر فيها البُعد الزمانى والمكاني، من النصوص التي تتصف بثبات أحكامها، والأحكام المعللة، وفقه تطبيقها على أرض الواقع من خلال تنقيح المناط وتحقيقه، وعوامل تغير الأحكام الاجتهادية في الواقع، وأثر فقه الواقع في الترجيح الفقهي، وأثره –كذلك- في الحكم والفتوى والقضاء، مع وضع ضوابط للاجتهاد المعاصر في كيفية التعامل مع النصوص الثابتة والواقع المتغير، بنظر الدكتور حمزة عبد الكريم.
يتناول الفصل الأول من الكتاب المعنون ب"فقه الواقع وأثره في الاجتهاد" مفهوم فقه الواقع من خلال تفكيك المصطلح والتعريف بجزئياته، ثم الانتقال إلى المصطلح المركب، ويخلص إلى أنَّ الواقع بوصفه مصطلحًا فقهيًا، لم يكن له وجود، ولم تكن له هُوية واضحة المعالم عند المتقدمين، بيد أن المصطلح ظهر وسطع نجمه عند المعاصرين. ثم ينتقل الباحث إلى الحديث عن المصطلح بشقيه: "فقه الواقع" من جهة التركيب، حيث تنحصر آراء المعاصرين في جهتين؛ الأولى تُعرِّف المصطلح من وجهة نظر سياسية، في حين تقصره الثانية على النظرة الاجتهادية الفقهية، ويخلص الكتاب بعد مناقشة التعريفات إلى أن هذا المصطلح يتكون من جناحين هما: فقه واقع النص، وفقه واقع تطبيق النص؛ إذ إنَّ فقه واقع النص يبيّن الأوصاف المؤثرة التي ذكرت في سياق تقرير الحكم المقتضية إعماله أو عدم إعماله، أمَّا فقه واقع تطبيق النص فيشمل الظروف والأحوال النازلة التي يطالب الفقيه باستكناهها؛ استظهارًا للأوصاف المؤثرة التي يدار عليها الحكم، ومجموع الأمرين؛ أي فقه واقع النص، وفقه واقع تطبيق النص، وهو الذي قصده الباحث بفقه الواقع.
وتظهر أهمية فقه الواقع من خلال النظر في مآلات إعمال هذا الفقه أو إهماله؛ ففهم النص ومعرفته يثمران نضجًا في فهم الدين؛ نظرًا لأنَّ بعض النصوص لا يمكن معرفتها حق المعرفة إلا بفهم السياق، والظروف، والملابسات التي أدت إلى نزولها أو ورودها. يستدل الكتاب برأى الإمام الشاطبي؛ إذ جعل معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجارى أحوالها – في عصر التنزيل- سببًا من أسباب الصواب في فهم القرآن. وتظهر كذلك هذه الأهمية في تطبيق الأحكام، وإنزال النص على الواقع؛ فعمل الفقيه يشبه إلى حدٍ كبير عمل الطبيب؛ ذلك أن الطبيب قبل أن يصف الدواء عليه أن يُشخِّص الداء، ويتعرف إلى حال المريض من جميع جوانبه، كذلك الفقيه عليه أن يحيط بالواقع المراد بيان الحكم الشرعى فيه من جميع جوانبه؛ كى يستطيع إنزال النص المناسب على الواقع، فالفقه الصحيح للنص، في الكتاب والسنة، يقتضى فهم الواقع محل النص في ضوء الاستطاعات المتوفرة.
يمكن القول إنَّ انتهاء الباحث إلى أن هذه القضية هي المعادلة المطلوبة للاجتهاد؛ كى يسترد العقل عافيته، والاجتهاد دوره، والوحى مرجعيته، ويقوَّم الواقع بقيم الدين فهمًا وتنزيلًا.
المسائل المستحدثة
من جوانب الأهمية التي تناولها الكتاب، معالجة المسائل المستجدة؛ إذ يتعين قبل النطق بالحكم في هذه المسائل فَهْم المسألة فهمًا متكاملًا؛ لأنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فاستخلاص الحكم الشرعى للمسائل المنظورة يقوم على ثنائية؛ تتمثل بتحريك النص الثابت والقواعد التشريعية العامة، مع استصحاب لمقاصد الشارع على الوقائع المتغيرة.
هذه العملية تشمل أمرين؛ الأول: استخراج دلالات النص بطرق الاستدلال المعروفة في علم أصول الفقه. والثاني: تكييف الواقعة التي يطبق عليها حكم النص، أي: صياغة الواقعة صياغة قانونية، والتعبير عنها ووصفها حسبما يتجمع لها من خصائص؛ أي من المفاهيم القانونية المطروحة، فهى تعبير فقهى أو قانونى عن الواقعة، وهذا يتضمن تحرير الواقعة الحادثة بتفصيلاتها، ورفعها إلى مرتبة من مراتب التجريد القانوني.
بهذين العملين يلتقى حكم النص الثابت مع الواقع المتغير. واختتم الكتاب جوانب الأهمية في اختبار صحة الفتوى، فلكل حكم فقهى أثر في الواقع قد يكون إيجابيًا؛ إذا كان استخلاص الفتوى جرى وفقًا لقواعد منهجية ضابطة، وقد يحدث خلل في أي مستوى من المستويات؛ فيكون الأثر المترتب على الفتوى أو على الحكم في الواقع أثرًا سلبيًا.
الأركان الأربعة
بنى الكتاب تأصيله لفقه الواقع على أربعة أركان هي:
استقصاء الأدلة من القرآن الكريم، ومن السنة النبوية، واجتهادات الصحابة، ثم الأدلة التبعية، ومن الأدلة التي أوردها الكتاب لتأصيله من خلال آى القرآن الكريم، المنهج التشريعى في القرآن، ومراعاته للواقع إبَّان نزول النصوص، ويظهر ذلك في أمثلة عدة، من أبرزها: التدرج في الأحكام، فلم يكن التشريع الإسلامى بمنأى عن حيثيات الواقع، وقد أخذ بأيدى المكلفين خطوة خطوة؛ ليصل إلى الهدف المرجو، وأكبر مثالٍ على ذلك المنهج التشريعى في تحريم الخمر، الذي سلك الشارع فيه مسلك التدرج في التحريم.
أما السنة النبوية الشريفة فقد كان لمعرفة النبى -صلى الله عليه وسلم- بواقع الصحابة وأحوالهم وتقدير ظروفهم؛ أثر كبير في البناء التشريعي، وجاء الركن الثالث من أركان التأصيل لهذا الفقه من خلال اجتهاد الصحابة، ويجد الكتاب من خلال نظره في اجتهادات الصحابة أثرًا كبيرًا لفقه الواقع، فقد كانوا يتعاملون مع الواقع فهمًا وتنزيلًا للأحكام على هذا الواقع، بما يحقق مقاصد الشارع والمصلحة المرجوة.
أما الركن الأخير في هذا البناء التأصيلى فقد جاء لأدلة اعتبار فقه الواقع من خلال الأدلة التبعية؛ إذ يرى الكتاب أنَّ اعتبار التشريع للواقع عند بناء الأحكام هو الذي حدا إلى وجود الخطط التشريعية التي تهدف إلى التعامل مع الواقع بإنتاجاته المختلفة؛ مما يُعطى المجتهد مرونة منضبطة في التعامل مع النصوص ضمن البعد المقاصدى والمصلحي؛ وهذا يجعل التطبيق الآنى للنصوص مستبعدًا. ولذلك نجد من المصادر التي تعالج الواقع، وتنظر إلى الظروف المحيطة عند الاجتهاد ما يُغنى الشريعة الإسلامية، ويجعلها صالحة لكل زمان ومكان، ومن هذه المصادر: الاستحسان، والاستصلاح، وسد الذريعة، والعُرف، وهى مصادر تشريعية، أو كما يعبر عنها الباحث بأنها خطط تشريعية تتعامل مع الواقع، وتعالج التطبيق الآنى للنصوص، الذي قد يذهب بحكمة التشريع ومقاصده.
شخصية المجتهد
تناول الفصل الثانى "أثر فقه الواقع في الاجتهاد وبناء الأحكام" فعرض أثر الواقع في تكوين شخصية المجتهد الفقهية، والنصوص التي يؤثر فيها البُعد الزمانى والمكانى في التشريع، ثم الأحكام المعللة بالمصالح والأعراف والذرائع وفقه تطبيقها. ثم عرض عوامل تغير الأحكام الاجتهادية في الواقع، وأثر الواقع في الترجيح الفقهي، وختم الفصل بعرض نماذج لأثر فقه الواقع في الاجتهاد والفتوى.
يسنتطق الكتاب ضمن حديثه عن أثر الواقع في الاجتهاد وبناء الأحكام، الظروف المحيطة بنشأة بعض المذاهب الفقهية، ومدى انعكاس الواقع على فتاوى أئمة المذاهب، أما النصوص التي تتناول أحكامًا تخضع للاجتهاد ضمن البعدين الزمانى والمكانى فقد قسمها الكتاب إلى نوعين: نوع يؤثر فيه البعد الزمانى والمكانى من حيث بقاء الالتزام به، وهو المتعلق بالأفعال الجِبِلِّيِّة المتعلِّقة بالرسول -عليه الصلاة والسلام- كملبسه ومأكله ومشربه، ونوع يؤثر فيه البعد الزمانى والمكانى من حيث التنزيل، وهى النصوص التي تناولت جانب الإفتاء والإمامة والقضاء.
أما المسألة الثالثة وهى الأحكام المعللة بالمصالح والأعراف والذرائع وفقه تطبيقها، فقد بدأ الكتاب بالتأسيس لها اعتمادًا على أن الحكم بِعِلَّتِه وجودًا وعدمًا؛ قدّم للفقهاء منهجية منضبطة في تطبيق الأحكام الشرعية في الأزمنة والأماكن والأحوال المتغايرة. وعلى الفقيه استخراج العلة من النص بطرقه ومسالكه المعروفة، والتحقق من وجود العلة في الفرع المقيس، الذي يراد تطبيق الحكم عليه؛ تحقيقًا لمقصود الشارع من جلب المصلحة ودفع المفسدة. ثم يمضى الباحث إلى الأحكام المبنية على العُرف، التي تتغير بتغير العُرف، فما بُنى من النصوص والأحكام على عُرف زمنى كان قائمًا في عصر النبوة، ثم تغير في عصر لاحق؛ ينبغى أن يعاد النظر فيه بناءً على العُرف الجديد، وقد كَثّف الباحث حديثه في هذه النقطة حول العُرف الحادث وعلاقته مع النص التشريعي؛ لِما للعُرف الحادث من علاقة بفقه الواقع المتغير، الذي يعود على بعض الأحكام بالتغيير.
ثم أفرد الكتاب مسألة الأحكام المعلَّلة بسد الذريعة وتغير حكمها بانتفاء العلة بالبحث؛ لِما لسدّ الذريعة من أهمية في الاجتهاد، من خلال النظر إلى واقع تطبيق النص، وما سيؤول إليه التطبيق من نتائج تحكم مشروعية الفعل من عدمه عند بناء الحكم الشرعي. وقد استشهد المؤلف لهذا الأصل بجملة أدلة من القرآن والسنة. ثم انطلق إلى مسألة أخرى، وهى عوامل تغير الأحكام الاجتهادية في الواقع؛ فعرض من خلالها تغير الأحكام الاجتهادية بسبب فساد الزمان، وتغيير الأحكام الاجتهادية بسبب التقدم العلمى وتطور الوسائل، وأثر فقه الواقع في ترجيح الآراء الفقهية، ومعنى مراعاة الخلاف، وانتهى بالعوامل التي تؤثر في الاجتهاد الانتقائي.
ثم عرض للفرق بين الحكم الشرعى والفتوى والقضاء، وخلص إلى أن الحكم الشرعى يتضمن الحكم المجرّد، والفتوى والقضاء يُبنيان أساسًا على الواقع، فيجعل الظروف المحيطة بالواقعة عنصرًا أساسيًا في بناء الحكم الشرعي؛ مما يستدعى الاقتضاء التبعى للحكم. وعمل الفقيه والقاضى هنا يكمن في التوفيق بين الحكم التشريعى العام والحكم التطبيقى الخاص، وهذا يحتاج إلى تحقيق المناط العام وتحقيق المناط الخاص، وكل ذلك من صلب العلم بالواقع.
الضوابط
خصص المؤلف الفصل الأخير من هذه الدراسة "ضوابط الاجتهاد في الواقع المعاصر" لمعالجة قضية الضوابط؛ إذ يؤسس الكتاب على ما سبق أن بيّنه في الفصلين السابقين من هذه الدراسة من أنَّ للواقع دورًا كبيرًا في تطبيق الأحكام، وأنَّ الاجتهاد مستمر إلى قيام الساعة؛ ليخلص إلى الحديث عن الضوابط التي تكفل اجتهادًا صحيحًا يراعى الثوابت والمتغيرات، وتكفلُ فهمًا سليمًا للنصوص وكيفية تطبيقها في واقع متغير وفى ظروف متغايرة. ويرى أن الأمر يستلزم تفكيكًا لعناصر الاجتهاد والضوابط التي ينبغى مراعاتها لكل عنصر من هذه العناصر المتمثلة في المجتهد نفسه والشروط الواجب توافرها فيه، وكذا الآلية الصحيحة والضوابط في التعامل مع النصوص في الوقائع المتغايرة، وكذلك الواقعة التي يراد معرفة الحكم الشرعى لها.
أسباب التناقض
يعزو الكتاب التناقض في كثير من الفتاوى إلى عدم وجود المنهجية المتزنة في التعامل مع عناصر الاجتهاد؛ ذلك أن البعض يدعو إلى تحييد النصوص إزاء الواقع الجديد، وبناء الأحكام على مطلق المصلحة في نظره، ومنهم من يغض الطرف عن الواقع برمته ويدعو إلى تطبيق النصوص تطبيقًا آنيًا دون مراعاة المقاصد، ودون فقه الموازنات والأولويات؛ وربما يخرج عن مقصود الشارع، ويؤدى إلى المشقة والعنت المنهى عنه شرعًا.
وبناء على ما سبق فقد تناول الكتاب في هذا الفصل مسألتين؛ الأولى: شروط المجتهد ومحل الاجتهاد، والثانية: الضوابط التي ينبغى للمجتهد أن يراعيها في فقهه للنصوص في ظل الواقع المتغير. وتتكون بنية المسألة الأولى من جزءين، هما: شروط المجتهد، ومحل الاجتهاد وما يتعلق فيه. أما شروط المجتهد فيرى الكتاب أن النصوص الشرعية ثابتة، والوقائع متغايرة، والأحداث متسارعة، ومن ثمّ كان لا بدّ لمن يتصدىّ للاجتهاد في الواقع أن يتحمل هذا العبء، وأن يكون مزودًا بآلية صحيحة في التعامل مع النصوص مبنية على أسس من الاستدلال سليمة؛ ليستخرج مكنونات النص، بما يحقق مقاصده وغاياته وأهدافه. ويستنبط الكتاب شروط المجتهد من خلال بعض النصوص الواردة عن بعض السابقين، كالشاطبى مثلًا، الذي ركَّز على شرط فهم مقاصد الشريعة على كمالها، الأمر الذي يستلزم فهم الجزئيات في ضوء الكليات، ويوجه الاستنباط باتجاه مقاصد الشريعة بما يجلب المصلحة ويدفع المفسدة، وهذا الشرط يؤسس لمنهجية في الاستنباط، لا سيّما في فقه واقع النص، بربط الأحكام بمقاصدها، ومن ثمّ استنباط المناط أو تنقيحه تبعًا لمقصد الشارع.
أما الجزء الآخر في هذه المسألة فهو محل الاجتهاد وما يتعلق فيه؛ إذ يرى الكتاب أن أهمية هذا الضابط تكمن في الاجتهاد المعاصر، بأن يكون الاجتهاد في النص ولو كان قطعيًا مُفسِّرًا؛ وذلك بمعرفة شروط تطبيقه وظروف تنزيله على الواقع العملي، بحيث يستخرج مقصده ويحقق مآربه، وذلك يتطلب فقه الواقع المتعلق بالنصوص وفقه مقاصدها وعللها، ويتطلب فقه الواقع التطبيقى بمعرفة الظروف المحيطة عند التطبيق، وفقه الموازنات والأولويات بقياس النتائج المترتبة عند التطبيق، وهو ما يعبر عنه أصوليًا بالنظر إلى مآلات الأفعال، وجملة ذلك من فقه الواقع.
وفيما يتعلق بالضوابط التي ينبغى للمجتهد أن يراعيها في فقهه للنصوص في ظل الواقع المتغير؛ يرى الكتاب أن الاجتهاد إعمال للنصوص وفحواها ومقاصدها في الواقع، فكيف نستثمر النصوص الثابتة لتؤتى ثمارها ضمن منهجية واضحة تراعى إعمال النصوص وتحقيق مقاصدها، ولا تغفل المتغيرات والظروف المتغايرة، وهى المعادلة التي يؤكد الكتاب ضرورة تفعيلها في ظل الاجتهاد المعاصر، ثم يتوصل إلى ضرورة وجود ضوابط منهجية تتعامل مع النصوص لاستثمار مقاصد النص، وإنزاله من الفقه النظرى إلى الواقع التطبيقى تحقيقًا عمليًا؛ لكون الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وهذه الضوابط هي: فهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها، وجمع النصوص في الموضوع الواحد مع تعليلاتها، ورد الفروع إلى الأصول، والجزئيات إلى الكليات، ثم التمييز بين الجانب التشريعى من السنة النبوية من الجانب غير التشريعي، وكذلك التمييز بين الوسائل والمقاصد في الأحكام، وأخيرًا فهم النصوص في ضوء بعدها الدلالى اللغوى والشرعى والعرفي، واختتم الباحث هذه المسألة بعرض نماذج لبعض الاجتهادات التي لم تراعِ الضوابط المتقدمة.
كذلك يجب فهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها؛ ويستند الباحث في هذا المقام إلى أنه من حُسْن الفقه للسنة النبوية النظر فيما بنى من الأحاديث على أسباب خاصة أو ارتبط بعلة معينة منصوص عليها في الحديث، أو مستنبطة منه، أو مفهومه من الواقع الذي سيق فيه الحديث. فالناظر المتعمقّ يجد أن من الأحاديث ما بُنى على رعاية ظروف زمنية خاصة؛ ليحقق مصلحة معتبرة، أو يدرأ مفسدة معينة، أو يعالج مشكلة قائمة في ذلك الوقت. ويوضح الكتاب ذلك بكون الحكم الذي يحمله الحديث قد يبدو عامًا ودائمًا، ولكنه عند التأمل يتبيّن أنه مبنيٌ على علة، يزول بزوالها كما يبقى ببقائها. ومن ثمّ لا بدّ لفهم الحديث فهمًا سليمًا دقيقًا من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.