يقول أهل العلم بالإسلام إن لله في كل فعل من أفعال المكلفين حكما شرعيا من وجوب أو حرمة أو كراهة أو إباحة أو استحباب ونحو هذا، ولمعرفة هذا الحكم لابد من وجود مصادر معتمدة تتوفر لها الحجية في الاستنباط منها، أي: تكون حجة في استنباط هذه الأحكام الشرعية، ومصادر الفقه الإسلامي في الحقيقة متنوعة، ويتم الاستدلال بها وفقا لنسق منهجي معين، بحيث يمثل الالتزام بهذا المنهج بجزئياته وقواعده الضابطة ضمانا لأفضل اجتهاد فقهي ممكن في تحديد الحكم الشرعي لأفعال البشر، بقدر ما يمثل المنهج ذاته الأداة المناسبة لفحص جِدّة هذا الاجتهاد أو ذاك، والتحقق من مدى ملائمته للتشريع الإلهي من جهة، وللفطرة والعقل واحتياجات الإنسان وقدراته من جهة أخرى. فبهذا الميزان نقيس ما يُعرض علينا من اجتهادات الفقهاء على أنه الحكم الشرعي، ولابد أن نلاحظ عند ذاك مراتب الحجية بين مصادر الفقه المتنوعة، فالقرآن مثلا في مرتبة الحجية الأولى من بين المصادر المختلفة، وقد توفر له ما لم يتوفر لغيره من قطعية الثبوت مع نسبية الفهم أو ظنيته في كثير من مدلولاته، في الوقت الذي لا يتوفر للمصدر الثاني من مصادر الفقه وهو السنة النبوية المشرفة هذا الوثوق بالثبوت لكونها أو أغلبها ظني الثبوت، فلا غرو أن تتوفر مساحة أكبر في التعامل مع الأحكام الفقهية المستنبطة من المرويات المنسوبة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لا يتوفر مثلا في التعامل مع النص القرآني، بمعنى أن لدينا مساحة من الأخذ والرد فيما يُعرض علينا من مدلولات النص القرآني وفقا للمنهج الأصولي وقواعد التفسير، لكننا لا نملك الشك في ثبوت آية واحدة من هذا النص القرآني، بينما نجد أنفسنا عند التعامل مع المرويات نملك الأمرين جميعا، أعني مراجعة المفاهيم والمدلولات المستنبطة، بالإضافة إلى مراجعة ثبوت النص المنسوب للنبي ذاته، لا سيما إذا ضاق النص علينا وأدى بنا عند استنباط الأحكام منه إلى مفارقة وعدم ملائمة لمقاصد الوحي ولحاجة الإنسان وفطرته وعقله. وأسوق مثالا على ذلك اجتهاد بعض الفقهاء في مسألة دية المرأة إذا جُني على أطرافها، كيدها وأصابعها ونحو هذا، فنجد أن بعض الفقهاء يرون أن دية المرأة مساوية لدية الرجل إذا كانت دون ثلث دية الجناية الكاملة على النفس، فإذا زادت عن الثلث كانت ديتها نصف دية الرجل، فلو تصورنا مثلا أن الدية الكاملة مليون جنيه مثلا، فدية الأصبع الواحد من الرجل والمرأة هي عشر ذلك أي مائة ألف، والأصبعين مئتا ألف، والثلاثة ثلاثمائة ألف، فإذا جُني على أربعة أصابع منها فديتها نصف دية الرجل في ذلك، أي مئتا ألف فقط، هذا هو الحكم الشرعي عند بعض الفقهاء، ولو تأملناه لوجدنا مفارقة عجيبة، فلو تصورنا جنايتين على امرأتين قطعت أربعة أصابع من إحداهما، وثلاثة أصابع من الأخرى، فدية الأولى وقد قطع منها إصبع زائد عن الأخرى أقل من دية من قطع منها أصابع أقل، وقد أدرك هذه المفارقة أحد الرواة فسأل عنها فأجابه آخر بقوله: " تلك هي السنة يا أخي"!!، وهنا نصل إلى ما نريد أن نقوله وهو أننا إذا قادنا المروي المنسوب إلى الرسول الأعظم إلى مثل هذه المفارقة العجيبة ينبغي أن نمتلك جرأة التشكك في صحة نسبة ذلك للنبي صلى الله عليه وآله إن ضاق بنا المروي عن فهم تقبله الفطرة ويسوغه العقل ويتسق مع عدالة الوحي واتجاهاته التشريعية، وليس هذا ردا لكلام سيد الخلق صلى الله عليه وآله حاشانا أن نفعل هذا، بل هو شك في صحة أو دقة النقل عنه، وإلا أدى بنا الأمر إلى أن ننسب لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مايتناقض مع ما ذكرناه كما فعل ذلك القائل " تلك هي السنة يا أخي". وأحب أن أنبه إلى أن هذا المنهج في التعامل مع المفارقات ليس من انفراداتنا، بل هو المنهج الذي طبقه فقهاء الصحابة أنفسهم، وخير مثال على ذلك ما يعرف في علم الفرائض بالمسألة العمرية، وتُعرف بأسماء أخر عند الفقهاء، وحاصل هذه المسألة الفقهية أن رجلا مات في عهد سيدنا عمر بن الخطاب وكان له إخوة من الأم وإخوة آخرون من ذات الأم لكن من أب آخر، فطبقا لنظام الميراث الظاهر يرث الإخوة من الأم بطريق الفرض ثلث التركة، بينما لا يرث الإخوة الأشقاء الذين يشتركون في نفس الأم إلا بطريق التعصيب إذا تبقى شئ من التركة بعد أصحاب الفرائض، والحال أنهم لم يتبق لهم شئ في الحالة التي عرضت على سيدنا عمر، فحكم سيدنا عمر طبقا لنظام المواريث بالإرث للإخوة من الأم وعدم ميراث الإخوة الأشقاء، الذين هم من نفس الأم لكن من أب آخر، وهنا تكمن المفارقة، وهو أنه قد ورث من يشتركون مع المتوفى في الأم فقط، بينما لم يرث من يشتركون معه في ذات الأم مع الأب، أي إنهم أقوى قرابة من الأولين، وسبب الإرث نفسه متوفر فيهم وزيادة، أدرك الإخوة الأشقاء ذلك بدافع من حاجتهم الإنسانية فقالوا لسيدنا عمر: " هب أن أبانا كان حجرا في اليم، أليست أمنا واحدة"، وهنا لم يقل عمر لأحدهم " تلك هي السنة يا أخي "!!، بل قضى بعد استشارة فقهاء الصحابة بالتشريك بينهم في الميراث. وهذا عين ما ندعو إليه، فإذا أدى بنا الالتزام بالنصوص لا سيما المروي عن النبي منها إلى مثل هذه المفارقات والتناقضات، فلنمتلك جرأة استعمال أدوات منهج أصول الفقه في تحقيق استقامة وتناسق الأحكام الشرعية دون أن يكون عندنا أدنى حرج في ذلك، ودون أن يتهم من يفعل ذلك بمعاداة السنة والتهوين منها!! والله أعلم.