«وبهذه النزعة وهذا المزاج، ألّف الغزالي – تهافت الفلاسفة- أعظم كتبه كلها، واستعان فيه على العقل بجميع فنون العقل، فاستخدم الصوفي المسلم الجدل الفلسفي، الذي لا يقل دقة عن جدل كانط؛ ليثبت أن العقل يؤدي بالإنسان إلى التشكك فى كل شيء وإلى الإفلاس الذهني والانحطاط الخلقي والتدهور الاجتماعي، وأنزل الغزالي العقل قبل أن ينزله هيوم بسبعة قرون إلى مبدأ العلية».. كلمات لول ديورانت، المؤرخ الأشهر وصاحب موسوعة قصة الحضارة التى حاول فيها تتبع تاريخ الإنسانية من أول الحضارات القديمة حتى العصور الحديثة. يزج بنا ديورانت إلى قلب إحدى مشكلات التراث الإسلامي، ونعني دور الغزالي فى تشكيل العقل الإسلامي، فمنذ صدمة الحداثة، انشغلت الأقلام فى إجابة سؤال ضروري (أين الخلل؟)، وتم البحث فى جذور العقل الإسلامي عن مواطن القوة ومواطن الضعف وتقليب التربة التراثية بحثا عن المعقول وعن اللامعقول. وربما بدأ هذا الدور مع حركات الاستشراق التى ألقت الحجر فى الماء الراكد، لتحمل أصحاب الدار على البحث والتنقيب تارة وعلى الدفع والشجب تارة أخرى. بحثت حركات الاستشراق العلوم الإسلامية التى قامت حول القرآن والسنة النبوية والسيرة والفقه والعقيدة وتاريخ الإسلام، وكذا أسهبت فى مجال الفلسفة الإسلامية. اشتهرت فى القرن التاسع عشر – إثر ظهور علم الأعراق- نزعة عرقية تقول بسيادة الجنس الآري على الجنس السامي وإضفاء كل معقول وعقلاني على الأول بإزاء الأخير الذي استأثر باللامعقول والغنوص والإشراق. صورة ابن رشد ولو تحدثنا عن العقلانية واللاعقلانية، لعلنا لا نجد من هو أكثر إثارة للجدل من حجة الإسلام أبو حامد الغزالي – المتوفي فى مطلع القرن السادس الهجري- وكتابه الأشهر «تهافت الفلاسفة» الذي مثل ذروة صراعه مع الفلسفة الأرسطية، وحمل ابن رشد للرد عليه، في واحدة من أشهر مناظرات التاريخ الإسلامي. الغزالى كمتكلم أشعري المذهب، لم يرتض أطروحات الفارابي وابن سينا فى مجال العقائد، لا سيما الأخير، الذي حاول الجمع بين الفلسفة الأرسطية والمفاهيم الإسلامية فى مزيج رأه الغزالي ابتعادا عن «العقيدة القويمة»، فأكفرهم فى ثلاث مسائل «قدم العالم/البعث الروحانى/ علم الله بالكليات»، وقال ببدعتهم فى سبع عشرة مسألة أخرى، وانتهى الأمر بهذا المتكلم الأشعري إلى التصوف والإشراق، مفضلا التجربة الذاتية والحدس الصوفي على أحكام العقل فى جانب الإلهيات. بعيدا عن تأثيرات السياسة التى قد يكون لها دور، وبعيدا عن إدانة الغزالي للفلاسفة بالكفر، يعنينا البحث عن مدى عقلانية الغزالي فى الرد على العقلانية الأرسطية وهل طوره المتصوف زج بالعقل المسلم إلى تيه اللامعقول؟ انقسم مفكرو عصر النهضة العربية حول هذه المسألة إلى قسمين رئيسيين: رشديون يرون الغزالي مؤسسا للأزمة العقلية فى الحضارة الإسلامية «الجابري أنموذجا»، وغزاليون يدفعون عنه هذا الاتهام ويرون أنه ناقش الفلسفة بالفلسفة، كما قال عنه العقاد، وأرى أنه لابد من تفكيك هذا الإشكال، بدءا من تحديد معنى «الفلسفة».. ولأن للفلسفة تعريفات بعدد الفلاسفة أنفسهم كما يقول برتراند رسل.. يمكننا تعديل السؤال للآتى: هل تحديد مؤهلات العقل ومحاكمته وتبين دروبه ومتاهاته يعد من قبيل التفلسف؟ يجيب د. أحمد فؤاد الأهواني، أستاذ الفلسفة الإسلامية: «النظر بالعقل فى العقل هو الفلسفة على وجه التحقيق»، لكن هل يرتضى الرشديون هذا المنزع؟ صورة الجابري عثرنا على نص للجابري، أحد أعلام الرشدية، يقول: «التفكير فى العقل درجة من المعقولية أسمى بدون شك من درجة التفكير بالعقل»، فى معرض إعلائه للحضارة اليونانية والإسلامية والأوروبية على باقي الحضارات فى جانب العقلانية. ونعود لنطبق هذا المعيار على ما فعله الغزالي فى كتابه التهافت، هل فكر الغزالي فى العقل؟ نعرض شهادة المستشرق الفرنسي، هنري كوربان، صاحب كتاب تاريخ الفلسفة الإسلامية، الذي يقول: «لقد بذل الغزالي كل ما أوتي من جهد لكي يبرهن للفلاسفة أن البرهان الفلسفي لا يبرهن على شيء، لكن لسوء الحظ اضطر أن يبرهن على ذلك ببرهان فلسفى بالذات». كوربان فى هذا الموضع يصادق على ما نقلناه عن ديورانت فى موسوعته التى نقلنا جزءا منها فى بداية المقال، إن تحديد مهمة العقل ودوره يشبه ما فعله فيسلوف ألمانيا العظيم، إيمانويل كانط فى كتابه الأشهر «نقد العقل المحض» الذي أثبت فيه أن العقل لا يختص بالنظر فى قضية الإيمان وإن حدث وتجاوز العقل حدوده وقع فى التناقض. وقد رد الغزالي على دعوى قدم العالم التى قال بها الفلاسفة الأرسطيون فقال «بم تنكرون على خصومكم إذا قالوا قدم العالم محال لأنه يؤدي إلى إثبات دورات للفلك لا نهاية لأعدادها ولا حصر لآحادها مع أن لها سدسا وربعا ونصفا، فإن فلك الشمس يدور فى سنة وفلك زحل فى ثلاثين سنة، فتكون أدوار زحل ثلث عشر أدور الشمس وأدوار المشترى نصف سدس أدوار الشمس، فإنه يدور فى اثنتى عشرة سنة، ثم كما أنه لا نهاية لأعداد دورات زحل لا نهاية لأعداد دورات الشمس، مع أنه ثلث عشره بل لا نهاية لأدوار فلك الكواكب الذى يدور فى ستة وثلاثين ألف سنة مرة واحدة، كما لا نهاية للحركة المشرقية التي للشمس فى اليوم والليلة مرة». الغزالى يقول: لو افترضنا أن الكون أزلي على زعمكم، فهذا يثبت أن عدد دورات أي جرم دوار = ما لانهاية، فلو افترضنا أن الأرض تدور بسرعة أربع أضعاف أي جرم دوار آخر، فهذا يلزم عنه أن عدد مرات دورات الأرض «التى تساوي ما لا نهاية» تزيد بأربعة أضعاف دوران ذلك الجرم «التي تساوى ما لا نهاية أيضا»، وعلى هذا: ما لانهاية = 4* ما لا نهاية، بمعنى آخر استحالة دوران الفلك بشكل أزلي استحالة رياضية!، هل هذا الإثبات يعد من قبيل العقلانية أو اللاعقلانية؟ نترك الحكم للقارئ. صورة ابن باجه وصدق أبو بكر ابن العربي، تلميذ الغزالي، عندما قال «شيخنا أبو حامد دخل فى بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منها فما قدر». ومن الجدير بالذكر، أن الفلسفة انتعشت بعد الغزالي غربا على يد ابن رشد وابن طفيل وابن باجة، أما فى الشرق، فالتأثير مزدوج، فقد دخل المنطق والفلسفة عمق علم الكلام الإسلامى في مزيج أسماه ابن خلدون «طريقة المتأخرين»، ولا عجب فى ذلك، فالغزالي اعتبر المنطق معيار عقل الإنسان ف«من لا يعرف المنطق فلا ثقة بعلومه أصلا»، كما قال في المستصفى من علم أصول الفقه، فكيف يقال على معتبر المنطق الشرط الأساسي للعلم إنه زج بالعقل فى اللامعقول! أما عن التأثير الصوفي للغزالي وضربه للعقل فدعوى متهافتة، فلم تخل حضارة من الأثر الروحي متعانقا مع الأثر العقلي فى مزيج إنساني يأبى اختزال الإنسان فى بوتقة عقلية منفردة. الفلسفة لغويا هى «حب الحكمة» وهو معنى أعم من العقل، فالحكمة تحتوي العقل ولا يحتويها، فليست كل الفلسفة يونانية، وليست الفلسفة اليونانية كلها عقلا، وليس من العدل أن نحصر الفلسفة فى أرسطو الإلهي، ونشجب على كل من عاداه، ولا أرى هذا إلا تقليدا للفيلسوف ابن رشد الذي كان مولعا بأرسطو حد التقديس، فقال فيه «فليس في الناس من هو أسخف رأيا ولا أبخس علما ممن يشك فى أرسطو».