السرطان.. مرض يغزو الجسد يفتت كل أوصاله، يجعل من صاحبه مجرد هيكل عظمي يسير علي الأرض، يحتاج إلي قلاع طبية متخصصة لتحاربه وتتصدي له بكل قوتها. تزايدت حالات الإصابة بالمرض اللعين في مصر خلال السنوات الأخيرة، فمع تعدد الصروح الطبية والمستشفيات المتخصصة في علاج الأورام السرطانية، إلا أنها لا تلبي احتياجات المرضى، الذين ينتظرون شهورا لاقتناص سرير بأحد المستشفيات لتلقي العلاج، وبعضهم تصعد روحه إلى بارئها لتأخر العلاج أو عدم توفره، خاصة أن حالات الإصابة بالمرض تصل إلى حوالي 200 ألف سنويا في مصر. مشهد جلوس مرضى السرطان يجلسون علي أرصفة المستشفيات الحكومية، سواء أمام المعهد القومي للأورام أو معهد ناصر أو مستشفى 57357 أو غيرها من المستشفيات الحكومية المخصصة في علاج الأورام، يتكرر يوميًا، لكنهم لا يحملون إشاعاتهم وتحاليلهم فقط، بل يحملون أيضًا هم اقتناص سرير يرقدون عليه لتلقي العلاج أو الحصول على دور قريب لدخول المستشفي بأقصي سرعة، كما يحملون هموم نقص العقاقير والمسكنات التي ترحمهم من آلامهم بضع ساعات. مرضى الأورام بانتظار الموت على سلالم المستشفيات الحكومية آلام ترتسم علي وجوههم، يحلمون بإيجاد أسرة يتلقوا عليها العلاج، ورغم أوجاعهم ومتاعبهم، إلا أن الأمل لا يفارق وجوههم، ولا يتلفظون بكلمة لا وتسبقها جملة «اللي ربنا عايزه هيكون»، إنهم مرضي السرطان الذين التقت بهم «البديل»د اخل وخارج المعهد القومي للأورام، رووا مآسي وآلام وأحلام أيضا بالشفاء، تحدثوا بكلمات تمزق القلوب.. بكوا.. ولعنوا المرض، ثم عادوا لقول «الحمد لله علي كل حال».. في البداية، التقينا بأم مؤمن، الطفل الذي يبلغ من العمر ستة أعوام، روت مأساتها وآلام نجلها الذي نهش الورم جسده، رافضة تصويره؛ حتي لا يراه أصدقاؤه في المدرسة بهذا الشكل, قائلة: «منذ عام، اكتشفت أن مؤمن يعاني من انتفاخ بالمعدة، فعرضته علي العديد من الأطباء، بعضهم شخّص الحالة بأنها مجرد التهاب في القولون، وتلقي علاج له، لكنه لم يجد بأي نتائج، فذهبت به إلى طبيب آخر، فطلب إشاعات وتحاليل، فتبين أنه مصاب بورم سرطاني في المعدة، ومنها بدأت رحلة العذاب في العلاج، مضيفة: «حاولت أن أعالجه بمستشفي 57357، لكنني فوجئت بأن دوري بعد عدة أشهر، ولم أجد أمامي سوي المعهد القومي للأورام، وللأسف أخذت وقتا طويلا حتي أحصل على سرير يتلقي عليه مؤمن جلسات الكيماوي، التي تصل إلي شهور طويلة، حتى تحولت حياتي إلى كابوس». ويجلس سيد محسن، الذي يبلغ من العمر 61 عاما ومصاب بورم في العنق، أمام المعهد القومي للأورام مهموما، قائلا: «انتظر دوري لدخول المعهد وتلقي العلاج منذ شهرين، واليوم فوجئت بأن القائمين علي المعهد يطالبوني بالانتظار لمدة أسبوعين آخرين، حتي أجد سريرا أتلقي عليه العلاج»، متابعا: «خلال الشهرين الماضيين، كنت انتظر أن يطرق الموت بابي كل دقيقة، وتوجهت إلى بعض المستشفيات الخاصة، فوجدت أن العلاج بها يتكلف مئات الآلاف، ما جعلني أنتظر دوري أو قضاء الله ليريحني من جميع آلامي». وتقول أم وليد: «زوجي مصاب بسرطان في الدم، ويعمل موظفا بجامعة القاهرة، وللأسف العلاج كان علي نفقة الجامعة من قبل، لكنها قررت أن ندفع 20% من تكاليفه، ما دفعني إلى بيع جميع ممتلكاتي، واضطررت النقل لشقة إيجار قديم؛ حتي أستطيع توفر ثمن العلاج لزوجي»، مؤكدة أنها حاولت تقديم العديد من الشكاوي إلى الدكتور جابر نصار، رئيس الجامعة، لكن الأمر باء بالفشل، مستطردة: «مريض سرطان الدم يحتاج إلي رعاية صحية وغذاء صحي أيضا، وللأسف لا أستطيع توفير الغذاء المناسب لزوجي؛ بسبب تكلفة العلاج شهريا وإيجار الشقة ونفقات الغاز والكهرباء والمياه وغيرها، ولا أعرف ماذا أفعل؟!»، لكنها اختتمت ب«الحمد لله علي كل حال». ويوضح كرم إبراهيم، مصاب بورم في الطحال: «أنتظر إجراء عملية استئصال الورم منذ فترة طويلة، حتي انتابني شعور باليأس من العلاج»، واستطرد باكيا: «أشعر بأن عزرائيل سوف يقبض روحي قبل أن أجري العملية»، وبعد أن هدأ قليلا، أكد أنه جاء اليوم إلى معهد الأورام ليتابع موعد العملية الذي حدد بعد شهر. نقص الأدوية كارثة تهدد حياة 60% من مرضى الأورام تشهد الفترة الحالية نقصا حادا في أدوية الأورام, علي رأسها «اندوكسان، ولولوكزان، وفايف فلو يوراسيل، وميثوتريكسات، ويوروميتكزان»، بالإضافة نقص حاد أيضا في العديد من الأدوية التي تدخل بشكل أساسي في جرعات الكيماوي، ما يؤثر علي المرضى، ويزيد من تدهور صحتهم. وقال عدد من الأطباء إن نقص الأدوية كارثة لم تلفت لها الدولة حتي اليوم، خاصة أن 60% من مرضي الأورام يعيشون تحت مظلة الخطر، الأمر الذي أكده رمزي حسان، طبيب الأورام، قائلا إن نقص أدوية الأورام كارثة حلت علي رؤوس المرضى؛ لأنها تدخل بنسبة كبيرة في جرعات الكيماوي، ما يعني تدهور حالات مرضي الأورام. وأضاف حسان ل«البديل» أن هناك نوعين لا يمكن الاستغناء عنهما لعلاج سرطان الثدي والحنجرة والغدد الليمفاوية والدم أيضا، وهما «اندوكسان وهولوكزان»، في ظل عدم وجود أي بدائل أخري لهما في علاج مرضى الأورام، مؤكدا وجود نقص حاد في الكثير من الأدوية الأخرى، تتحمل مسؤوليتها الدولة بشكل كامل. وأوضح الدكتور عصام عبد الحميد، أمين عام نقابة الصيادلة، أن هناك نقصا حادا في أدوية الأورام، خاصة دواء «اندوكسام» المسكن للآلام، مرجعا السبب إلى اعتمادنا بصورة أساسية علي استيراد الأدوية فقط، دون وجود أي بوادر لتصنيع الأدوية، وعدم السماح للشركات المصرية بتصنيع أدوية الأورام أيضا، ما يجعل أصابعنا تحت ضرس المورد دائما، بحسب وصفه. وأكد عبد الحميد ل«البديل» أن انفجار أزمة نقص أدوية مرضي الأورام ليست الأولي من نوعها، لكنها تتكرر من حين لآخر وتتجدد باستمرار، مطالبا بضرورة إيجاد حلول عملية بدلًا من انتظار الإفراج عن شحنة الدواء بالجمارك التي تتوقف عليها حياة ملايين مرضي الأورام بمصر. وشدد أمين عام نقابة الصيادلة، على ضرورة أن تسمح الدولة لشركات الأدوية المصرية بتصنيع عقارات الأورام محليًا؛ حتي نستغني بصورة كاملة عن استيراد الأدوية، كما أن التصنيع لن يوفر لميزانية الدولة فقط، لكن سوف يوفر آلاف الجنيهات علي المرضي الذين يتحلمون نفقة علاج الأورام بصورة كبيرة، مختتما: «للأسف، الكارثة الحقيقية تكمن في عدم وجود بدائل للعقارات الناقصة، ما يثير ذعر مرضي الأورام». 11 مركزًا لعلاج الأورام بمصر.. و72 ألف مريض ماتوا في 2014 ارتفعت نسبة الإصابة بمرض السرطان في مصر بصورة كبيرة، فأعلنت منظمة الصحة العالمية أن المرض الخبيث أودى بحياة 72 ألف شخص في مصر عام 2014، كما قدرت المنظمة وفاة 15 مليون مريض عالميا في السنة، أي أن شخصا يموت بسبب السرطان كل ثانيتين. وأكد بعض الأطباء أن عدد المستشفيات المتخصصة في علاج الأورام بمصر لا يتناسب مع عدد المرضى المتزايد، ما يُحدث خلل في عملية العلاج، ويؤدي إلى وفاة منتظري الأدوار. ويقول الدكتور محمد عزب العرب، رئيس قسم الأورام بمعهد الكبد، إن الدولة تعاني من عدم استيعاب مرضي الأورام، رغم أن عددهم في زيادة مستمرة، حتى أصبحت الأرقام في مصر عالمية. وأضاف عز العرب ل«البديل» أنه رغم الزيادة غير المسبوقة في عدد مرضى السرطان، إلا أن هناك 11 مركزا تجميعيا لعلاج الأورام على مستوى الجمهورية، لا يلبون احتياجات 27 محافظة، مؤكدا أننا نحتاج من 40 إلى 50 مستشفى لعلاج الأورام، مطالبا الدولة بضرورة تخصيص ميزانية أكبر لوزارة الصحة حتي تستطيع تغطية جميع احتياجات المحافظات والمستشفيات والمرضي، كما يجب أن يساهم رجال الأعمال والجمعيات الخيرية لتنمية المستشفيات حتي تسع أكبر عدد من المرضى. ويوضح الدكتور سيد مرزوق، أخصائي الأورام، أن الدولة تتجاهل المستشفيات الحكومية بصورة تامة، ولا تنظر إلى المرضى الذين يلجأون إليها والمعاناة التي يواجهونها على سلالم المستشفيات بانتظار أدوارهم في العلاج. وتابع مرزوق: «حتى المستشفيات التي تفتتح حديثًا، مثل 57357، لم تستطع استيعاب كل الأعداد الهائلة من المرضى، ما يدفع الكثيرين إلى المكوث على سلالم المستشفيات علي أمل الحصول على فرصته في العلاج، لافتا إلى افتقار المحافظات لوجود مستشفيات متخصصة في علاج مرضى الأورام، فليس من منطقيا أن يأتي مريض من محافظة حتى ينتظر دوره على سلالم معهد الأورام، فيكفيه ألم المرض، مختتما: «يجب أن تنتبه الدولة إلى علاج الغلابة أكثر من ذلك».