لاحظت كما لاحظ الآخرين أن معظم المفكرين المؤسسين للأفكار اليسارية لا ينتمون للطبقات الكادحة التي دافعوا عنها، فلا كارل ماركس أو أنجلز أو لينين أو ماوتسي تونج أو جيفارا عانى من الفقر وضيق العيش, بل انتموا لطبقة فوق متوسطة وتمتعوا بتعليم جيد وحياة مريحة. ما الذي دفع هؤلاء إذن لاعتناق الأفكار اليسارية المدافعة عن حقوق الفقراء والعمال؟, ثم ما الذي جعل من مارَس الحكم منهم كلينين، وماوتسي تونج، سببا في قتل الملايين من البشر, سواء نتيجة الحروب أو نتيجة المجاعات التي تسبب فيها حكمهم؟. هذه الشخصيات التي اتسمت بدرجة عالية من الذكاء تمتعت بالمثالية في تفكيرها, فحلموا بعالم مثالي لا وجود له, تعاطفوا مع الطبقات الكادحة من العمال والفلاحين, لكن التعاطف لم يكن هو محرك أفكارهم بل الفكرة, ليبيد الملايين في سبيل تحقيق الفكرة. لنأخذ فلاديمير لينين مثالا, ذلك الشاب الثري ابن الذوات, ما الذي دفعه لإضاعة جل عمره في تطوير والدفاع عن الماركسية وقيادة ثورة أكتوبر 1917 بروسيا, هل كان دافع لينين تعاطفه مع البائسين أم مثالية نظريته ونظرته؟, لا شك أن فلاحي روسيا كانوا بؤساء, كما أن الطبقة العاملة هناك كانت قليلة العدد و محدودة، إذ إن الصناعة في روسيا كانت حديثة العهد, لكن الواقع التاريخي يؤكد أنه لم يتعاطف مع الفلاحين قط، بل نظر إليهم في كثير مما سطره كخصوم طبقيين, وسماهم "الكوالاك" أي ملاك الأراضي, رغم علمه بصغر حيازاتهم وبؤس حالهم, لكنه حسبها بطريقة أخري نظرية وظالمة تماما: الفلاحون طموحون ويسعون لتأكيد ملكياتهم وتوسيعها, لذلك فمصالحهم تتعارض والثورة. أما ماوتسي تونج، فنظر إلى الفلاحين باعتبارهم قوام ثورته، ورأي أن "من ليس معي فهو ضدي", ومن يقف ضد أفكاري يجب أن يموت, المسألة محسوبة بالورقة والقلم ليس أكثر, وإذا عاكسني الواقع سأسعى للي ذراع الواقع ليتناسب مع مثاليتي, وحتى لو انحنيت للواقع قليلا فسأفلسف ذلك الانحناء وأضعه في إطار فلسفتي (كما سمح لينين بالتجارة الحرة لينقذ شعبه من المجاعة بعد فشل اشتراكيته). هكذا يحسبها المثاليون, بالورقة و القلم لا باللحم و الدم, مهما كلف الأمر من دماء البؤساء الذين خرجوا ليدافعوا عن حقوقهم, المهم النظرية ونجاح تطبيقها, لا حياة الكادحين وحقوقهم. ونظرة لتاريخنا نجد النخبة الليبرالية بالعهد الملكي والتي تلقت تعليمها في الخارج , تؤسس حزب الأمه (قبيل الحرب العالمية الأولى) لتدافع عن استقلال مصر ضد الاحتلال وضد التتريك، كعدلي يكن، وحسين رشدي، ولطفي السيد, هذه النخبة شاركت سعد زغلول ثورته وشاركوه مفاوضاته, ثم اختلفوا معه وانشقوا عليه، مؤسسين حزب الأحرار الدستوريين, تلك النخبة المثقفة الحالمة والمتأثرة بالغرب هي التي تشكلت منها أغلبية لجنة صياغة الدستور، ليصفها سعد زغلول بلجنة الأشقياء, هؤلاء الذين دعوا للأفكار الليبرالية طوال أعمارهم, هم من خانوها عقب فوز حزب الوفد الكاسح بانتخابات 1923, وتحالفوا مع الملك والاحتلال للوصول للسلطة, نحن نقيم الأمر بأنه خيانة, لكنها بالنسبة لهم كانت وجهة نظر!. فغرور الفكرة والمفكر جعلهم يرون أنفسهم على صواب مطلق, ولا يتصورون أن المجتمع يرفض أفكارهم, فالناس أغبياء من وجهة نظرهم لا يعرفون مصلحتهم ولا يدركون الصواب, لذلك لا مانع من التحالف حتى مع الشيطان للوصول إلى السلطة، وتطبيق الصواب وإعادة تربية الشعب وتنمية إدراكه.