سقطت الصين على أم رأسها إثر "قفزة ماوتسي تونغ العظيمة للأمام"، عشرات الملايين قضوا نحبهم لأن لا أحد في النخبة الصينية استطاع أن يقف في وجه الزعيم المبجل "ماوتسي تونغ" ليبين له مدى سذاجة أفكاره التحديثية، حتى عندما قضى ما يترواح بين 36 إلى 55 مليون صيني في مجاعة أفرزتها سياسات "ماو" ظل الهتاف يدوي في سماء الصين يحيا "ماوتسي تونغ" الذي لا يقهر!. تجويع الشعب كان وسيلة "ماو" للنهوض بالصين، انتزع ملكيات الفلاحين الصغيرة فيما عُرف بنظام التعاونيات من أجل تمويل الصناعة، وسخَّرتهم الحكومة للعمل في المزارع والمصانع مقابل اللقمة التي لم تكن كافية لسد رمقهم، وبدلا من زيادة إنتاجية المحاصيل حدث تراجع كبير، كرس له فكرة سخيفة أخرى تراءت ل"ماو"، إذ أعلن الحرب على عصافير الدوري بزعم أنها تأكل المحاصيل، وطلب من الصينيين أن لا يسمحوا لها بأن تحط على الأراضي الزراعية، فنفقت أعداد كبيرة منها، وتكاثرت الحشرات، لتقضي على الجزء الأكبر من الحصاد!. رغم الخسائر وتدهور الأوضاع من سيئ إلى أسوأ، تبارت الصحف في تمجيد "القفزة العظيمة للأمام"، مبرزة صورا وأرقاما لا علاقة لها بواقع بائس يتمرغ فيه الفلاحون الذين لجأوا من أجل سد جوعهم إلى أكل لحاء الأشجار والوحل الأبيض وسيقان الأرز..، بعد أن استولت الحكومة على محصولهم القليل، وشحنته إلى الاتحاد السوفيتي من أجل سد قرض ل"ماو" أراد عبره بناء مصانع لإنتاج الفولاذ، ضمن خطة طموحة، سعت لرفع إنتاجية الصين من 5 ملايين طن إلى 100 مليون في ثلاث سنوات فقط، الأمر الذي ما كان إلا بالتقارير الصحفية والأفلام الدعائية للحكومة الشيوعية، فالعمل حتى الموت الذي أُجبر عليه الفلاحون لم ينتج في النهاية إلا معدنا غير صالح للاستعمال. استراتيجية "ماو" في ظل المجاعة، والتي كشف عنها فيما بعد مستند سري بالأرشيف الصيني، كانت تقضي التضحية بالفلاحين والريف من أجل إطعام المدن والمراكز الصناعية والسياسية، لذا لم يتراجع عن سياساته رغم الأوضاع الكارثية، فالرجل، كما صرح بذلك لاحقا رئيس الاتحاد السوفيتي خروتشوف، اعتقد أنه مبعوث إلهي منوط بمهمة إنهاض الصين مهما كلف الأمر. لم تتأثر عبادة "ماو" بعد أن قفز بالصين إلى الهاوية لا للأمام، بل واستطاع التغلب على كل من اعتبرهم خصوما له من قيادات الدولة والحزب الشيوعي، ممن حاولوا إنهاء "القفزة العظيمة للأمام"، وكان سلاح "ماو" في ذلك الجماهير المشحونة على الدوام بواسطة الإعلام. في البحث عن تفسير لهذه العبادة المدمرة والمخاصمة للمنطق تبرز لنا غريزة أسماها عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون، ب"غريزة القطيع"، يقول لوبون إن هذه الغريزة عندما تستيقظ عند جمهور ما فإنه "يفقد قدرته على التفكير النقدي، ولا يهم أن يكذب الطاغية (راعي القطيع) أو أن يكون صادقا، لأن الجمهور أصلا لا يطلب الحقيقة، المهم أن يعرف الطاغية كيف يحرك غريزة "الخوف والبقاء" عند هذا الجمهور لكي يتصرف كقطيع، بردود فعل هيستيرية تفضي إلى عبادة الطاغية كزعيم مخلص، والخوف من بأسه في نفس الوقت، في هذه الحالة يصبح الجمهور خاضعا بشكل أعمى، لمشيئة الطاغية، الذي يتحول كلامه إلى دوغما، لا تُناقش، أما الذين لا يشاطرون القطيع هذا الإعجاب بالزعيم يصبحون هم الأعداء". وهذه اللوثة لا يقع في أسرها البسطاء من الناس فقط، بل تجذب إليها أيضا المثقفين، إذ برأي لوبون، فإن حالة الجمهور تعمل على تراجع سيطرة الشعور على الفرد مفسحة المجال إلى اللاشعور، والفرد في ظل سيطرة اللاشعور يكون أشبه بالمنوم مغناطيسيا، فبما أن "حياة الدماغ تصبح مشلولة لدى الإنسان المنوم، فإنه يصبح عبدا لكل فعالياته اللاواعية، ويصبح منومه قادرا على توجيهه الوجهة التي يشاء، بعد أن أضحت الشخصية الواعية مغمى عليها، وأصبحت إرادة التمييز والفهم ملغاة" يتساوى في ذلك العامة والمثقفون. وكذلك، فالدولة المحكومة بنظام كالنظام الماوي، تخرج هي أيضا عن طورها الطبيعي المتمثل في خدمة المجتمع، إذ تنادي بالعلم وتعصف بروحه، وتدعو للقانون لتطأه في كل يوم، وتطمح للنهضة لتحصد النكسة، وتقايض الحريات بالأمن فتنزع عن المجتمع حرياته ولا تحفظ عليه أمنه. تدخل الدولة في حالة هي أقرب إلى الجنون، جنون تصنعه توهمات حاكم عن قدراته ومواهبه، وخيانة نخبة لدورها التاريخي، وانحراف إعلام عن مهمته في نقل الحقيقة، أما العقلاء في ظل هكذا صورة، فعليهم إما أن يشربوا كغيرهم من نهر الدولة، أو أن يصبحوا منبوذين، يُنظر لهم كخونة، ويعاملون كأعداء للمجتمع والدولة!.