إذا كنا قد طرحنا سابقا تساؤل هل نحن بحاجة لتغيير أم إصلاح، وقلنا إن الأصح أننا لم نعد بحاجة لإصلاح بل إلى تغيير كلي لثوابت وموروثات عقلها الاستراتيجية وطبائعها الاجتماعية، ومع هذا الافتراض يمكننا أن ندعي أن التوجه الديني أو القومي بل والوطني لم يعد أنماطا فعالة للتغيير المستهدف بقدر ما هي مستهلكة الأفكار عشوائية الثوابت، فلا يمكننا حتى يومنا أن نجد تنظيرا علميا واحدا لأى من تلك التوجهات، وهذا لا يعيب مصدر التوجه أو فكرته بقدر ما يعيب تجاربه، فلا يمكننا أن ندعي أن توجه الدولة قومي عربي دون وجود منهج استراتيجي لهذا التوجه ليصل لمرحلة قناعة شعبها، وبالقياس علي بقية التوجهات لا يمكننا أن ندعي نفس الزعم. إكمالا لما نعنيه هنا توجب أن نفرق بين الأيديولوجيات كمصدر إلهام لاستراتيجية الدولة وبين الاستراتيجيات كمنفذ لها، وليس شرط صحة الأولي نجاح الثانية. فمن الممكن بل هو كائن فعلا أن تمتلك دولة أيديولوجية منحرفة تحقق بها نجاحا استراتيجيا، وبالقياس العكسي يكون نفس المنطق صحيحا، فربما تمتلك أيدولوجية عظيمة واستراتيجية فاشلة، والفجوة بين التنظير للأيديولوجية والنظرية الاستراتيجية يعود إلي قصور الأولى كمنهج وأولوية الثانية كضرورة. وعلي كل الأحوال، فنحن العرب والمسلمين أبعد ما نكون عن الثانية وأقرب مما يفترض بتقديس قصور الأولي، رغم أننا إذا وضعنا الأيديولوجيات في قالب ثلاثي الأبعاد (الوطنية, القومية, الدين) سنجد أنها مجتمعة لا تتعارض بقدر ما هي تتفق، تنظر لبعضها لا تنتقص، لتكون الأولي منبع الثانية وتكون الثالثة مظلة متوازنة العقيدة ومرنة العقل تستوعب خلافات الأولي والثانية بثوابتها الإلهية. وإذا كان النقد الموجه لهذا الافتراض هو المثالية المبالغ فيها فهذا النقد مقيد بالاستراتيجية، بمعنى أوضح فإن أبعاد هذا القالب لا يمكن أن نتبنى أحدها دون اعتبارات الآخر، فتلك الاعتبارات ضرورة مفروضة بالاستراتيجية، وإن لم تكن فهي مستهلكة بالصراع والتناقض فيما بينها. وبعيدا عن كل هذا اجعلونا نظن في أنفسنا ولو لمرة أننا ننتوي أن ننتج نظريتنا المقلة بمنهجها الفكري وتوجهها الاستراتيجي، بل واجعلونا نتمادى ونستبعد كل موروث ومستهلك لنقول إننا في البداية ينبغي أن نتفق علي ثابت عام وهو (أن ثلاثية الوطن والقومية والدين) لا مفاضلة بينها، وأنها ثلاثة مسميات لمكون واحد، فالوطن في القومية وإن أنكر والدين لا ينكر كلاهما ويؤكد أنهما فيه. ثم ننتقل إلى مرحلة التنظير الفكري لتحويل هذا الثابت لمنهج وقناعة، وفي نفس الوقت نعمل علي إنتاج نظرية استراتيجية تنقل تلك القناعات والأفكار إلي حيز التخطيط والتنفيذ. خلاصة ما نريد أن نقوله إن حاجاتنا إلي التغيير هي بنفس درجة احتياجنا لإنتاج منهج ونظرية لهذا التغيير تتجنب استهلاك نفسها بثابت الموروث. [email protected]