لا يمكننا أن ننعم النظر في فكر ابن رشد دون أن نلحظ ذلك الالتباس بين كثير من المتناقضات، التي حاول التوفيق بينها، فجرّت عليه الكثير من البلايا، وأصبح الناس فيه –أيضا- على النقيض، فهو ملحد في نظر بعضهم، عميق الإيمان عند آخرين، عقلاني لا تحد اجتهاده العقلي حدود، نصي أعلى من قيمة النص، ووقف معه عند حدود الشرح، وهو في (فصل المقال) يكثر النقل للاستدلال، ويقنع في أحيان كثيرة بالوقوف عند ظاهر النص، وبالرغم أن ابن رشد هو صاحب التصنيف الذي يقول إن الفيلسوف هو من قال بالبرهان، أما المتكلم فهو الذي يعتمد الجدل باعتبار أنه عرف الحق مسبقا كاعتقاد خاص لاشك فيه؛ فيحاول نقد الخصوم والتشكيك فيما يعتقدون- برغم هذا سنجد كما يقول الدكتور حسن حنفي "أن كل مؤلفات ابن رشد أقرب إلى القول الجدلي منها إلى القول البرهاني، الشروح والملخصات والجوامع في كثير من جوانبها حجاج مع الشراح يونان ومسلمين، ودفعا لسوء تأويلهم؛ ويتضح ذلك بجلاء في مقالاته في المنطق والعلم الطبيعي". وقد يعتقد البعض أن ابن رشد هو إمام التأويل، بل إن التأويل الفلسفي يعتبر"توجها رشديا" عند البعض؛ إلا أنه في "الكشف عن مناهج الأدلة" يختم بما يسميه قانون التأويل، وهو الذي يؤول النظر في آيات القرآن الكريم على أنها الحكمة، غير أنه في نفس الوقت لا يرفض التأويل المفضي إلى قدم العالم كقوله "وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء" وقوله" ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ" وهو في كل ذلك يلتزم رأيه بأن التأويل هو"إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، دون الإخلال باللسان العربي" وقد قصد من ذلك كما يقول حنفي إلى "الجمع بين العقول والمنقول". والتأويل عند ابن رشد مشروط، فهو قاصر على العلماء المجتهدين الذين تنضبط اجتهاداتهم بالضوابط الشرعية التي تجعل لمن أصاب منهم أجرين وللمخطئ أجرا واحدا، وهو ما يبتعد بهم عن تهم التكفير والزندقة والمروق، إذ تتكون القناعات لدى العامة أن هذه المسائل النظرية شديدة الصعوبة، ومن الواجب بحثها في ضوء كثير من الاعتبارات الفكرية والعقدية. لذلك يشكل مفهوم التأويل عند ابن رشد طريقا آمنا للهروب من التقيد بما تمليه الاتجاهات النصية الظاهرية، ولكنه لا يصرح مطلقا بتحرره من قيود تفرضها النصوص وما لها من سطوة، لكنه – أيضا- لا يفصح عن مواجهة مع النص بل مع الشروح التي ضيقت كل واسع، حتى صارت هي نفسها حوائط تحول بين النص والمعنيين به. يقول ابن رشد إنه "في جميع الحالات يؤدي النظر البرهاني إلى معرفة الموجود في حالة سكت عنه الشرع، فهنا وجب البحث فيه كما هو الشأن في الاستنباط الفقهي بالقياس الشرعي، وإذا كان الموجود قد نطق به الشرع، فلا يخالف ظاهر هذا النطق مع ما يدعوا إليه البرهان، وإذا ظهر تعارض بين ما وصل إليه البرهان وما بينه الشرع، هنا وجب أن نطلب التأويل". لكن التوفيق بين الحكمة والشريعة الذي قصده ابن رشد لم يذهب بعيدا عن محاولات سابقيه، برغم محاولاته المضنية في إثبات أن فهم أحدهما لا يكتمل إلا بالآخر وهو يقول في ذلك "إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة.. فالصواب أن تعلم فرقة من الجمهور التي ترى أن الشريعة مخالفة للحكمة، أنها ليست مخالفة لها، وذلك بأن يعرف كل واحد من الفريقين أنه لم يقف على كنههما بالحقيقة، اضطررنا في مناهج الأدلة أن نعرف أصول الشريعة، فإن أصولها إذا وجدت أشد مطابقة للحكمة مما أول فيها، وكذلك الرأي الذي ظن في الحكمة أنه مخالف للشريعة لم يحط علما بالحكمة ولا الشريعة، ولذلك اضطررنا نحن أيضا إلى وضع قول فصل المقال في موافقة الحكمة للشريعة". ومع ذلك فليس لأحد أن ينكر ما قام به ابن رشد من جهود لمواجهة الدغمائية التي كانت في أوجها، وكانت تقصر الأمر على رؤية واحدة وتفسير واحد للنص، كان ابن رشد يعمل ويجاهد المتربصين له، ويدعو ويعلم ويقضي بين الناس، ويصل الليل بالنهار، في أجواء لم تكن لتسمح له بالتنفس بحرية كاملة، لكنه استطاع أن ينجز، وأن يحقق مشروعه، برغم ما لاقاه من عنت طوال رحلته، وبالقطع فإن الواقع قد فرض عليه كثير من المواءمات التي نقطع بأنه ما كان ليلجأ إليها في ظروف طبيعية؛ وربما كان وعيه بخطورة أن يقف الدين والفلسفة موقف تضاد هو ما دفعه إلى العمل على تحقيق هذا الاتصال الذي تجلى في فصل المقال الذي وجهه إلى الفقهاء، وفي الكشف عن مناهج الأدلة الذي وجهه للعامة، ثم كان تهافت التهافت لأصحاب البرهان، وهو في كل ذلك يسعى لفتح الآفاق نحو تحرير العقل ليصبح أكثر قدرة في التعامل مع النص وفق ما تمليه متغيرات الواقع.