متحليا بأكبر قدر من الحذر عليك أن تتلمس خطاك، وأنت تشرع في الكتابة عن تراث ابن رشد، فللكتابة هنا محاذير عدة، هي كالسير على حافة خطرة تشرف على هاوية سحيقة، ومكمن الخطورة هنا أنه من المحتمل جدا أن تسيء من حيث أردت الإحسان، وأن تغوى مبتغيا الرشد، والأخطر أن تحسب امتلاك يقين، وأنت في حومة المظنّة لم تبارح . أما إساءتك فقد تأتي من مخالفتك منهج الرجل، أو أن تلتبس عليك مقولته فتجنح بها خلاف ما أراد، أو أن تحاكم قوله إلى ضابط لم يحدده سلفا في تناولاته الحكمية، وأما غوايتك فتخشى إن أنت ضيقت واسعا بفهم محدود لنص وضع ابن رشد له ما وضع ليفسح له الرؤية وفق تأويل يلتزم المنهج ويرفض الشطط. خاض ابن رشد معاركه الفكرية انتصارا للعقل على الخرافة، وانحيازا لحيوية النص في مقابل من يصرون على جموده وانقطاعه وفق تفسير واحد يضيق بمتغيرات الزمان والمكان، وإعمالا لمبدأ أن من اجتهد فأصاب فله أجران، فإذا أخطأ فله أجر بشرط أن يكون قد استوفى شروط الاجتهاد، مؤكدا على أن النصوص قطعية الدلالة قطعية الثبوت لا يمكن بحال أن تخالف العقل، معتبرا تأويل النص وفق شروط محددة وصارمة ضمانة لبقائه واستمراره وديمومة فاعليته؛ لذلك يعتبر التأويل توجها رشديا خالصا مؤسسا لمشروعية الاختلاف القائم على الأسس العقلية والعلمية، ناقدا للخطاب الذي يفرض التزاما حرفيا بالقراءة الأولى للنص الأصلي. لقد وضع ابن رشد أساس هذا المنهج في مناخ شديد الخطورة يلقي بتهم التحريف والزندقة والمروق جزافا على صاحب كل فكر تجديدي وكل ذي رؤية يحاول أن يحرك ركام الأفكار المتكلس منذ آماد بعيدة. رأى أبو الوليد أن النصوص الشرعية عقدية كانت أم تشريعية، إنما هي نصوص إجمالية و مختصرة تتوجه إلى البشر في العموميات الأساسية، بيد أنها تدعو العقلاء إلى التأويل والاستنباط لمواجهة مختلف الأحوال المجتمعية والفكرية الثقافية ومتابعة التطورات والتغيرات البشرية، ومن أجل هذا نشأت العلوم الإسلامية المتعددة. أكد ابن رشد أن المتأول عليه أن يراعي اللغة العربية وأصولها، وأن يكون التأويل غير مخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز في تسمية الشيء بشبيهه، أو بسببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي، و كان لابد للتأويل من التكيف مع الضوابط المفروضة عليه ومسايرة التفاسير بالإضافة إليها في المعاني وعدم التناقض معها. سيلمح البعض هنا إلى تعارض حادث بين تراث ابن رشد الفقهي وفلسفته، والحقيقة أنه لا يوجد ثمة تعارض أو تناقض بحسب ما يبين الدكتور (بورشاشن) في كتابه وحدة الخطاب الرشدي بين الفقه والفلسفة، إذ أوضح صعوبة التحدث عن فلسفة أبي الوليد بمعزلٍ عن رؤيته الفقهية والأصولية. كما أنه لم يعد من المقبول، أن يقرأ المرء كتبه الفقهية من دون استحضار المقدمات الفلسفية التي صدر عنها الموقف الرشدي برمته. بل إن الدكتور بورشاشن يربط ربطا جديدا بين المنطلقات الصوفية لفكر ابن رشد وترسيم قواعد ممارسته العقلية لفعل التأمل في مختلف مستوياته "الأمر الذي يجعلنا أمام قراءة، بقدر ما تريد لنفسها أن تكون قولا مُفصلا في العقلين الفقهي والفلسفي، بقدر ما إنها لا تقيم فصلا قاطعا بينهما وبين الرؤية الصوفية، التي نهل منها أبو الوليد قواعد ممارسته العلمية". يطرح هنا بورشاشن طرحا يبدو غريبا عن ابن رشد المشهور ب ( تهافت التهافت) والشدة في الرد على المتصوفة، ويرى أنه لم يكن معاديا للصوفية بدليل احتفائه بمحيي الدين بن عربي، وأبي العباس السبتي، وغيرهما كذا ما عرف عنه من الزهد وترك متاع الدنيا واعتباره إماتة الشهوات أساسا من أسس النظر العلمي، وهو فعل لا يكون بغير زهد، وما يؤكد ممارسة فيلسوفنا للزهد بعض الفضائل الشكلية التي ميزت شخصه، منها ورعه الذي عرف به سواء في اختياراته العلمية حيث نجده في البداية مع الأورع على الأقيس، أو في حياته حيث عرف بالورع والزهد وهو ما شهد له به تلميذه أبو بحر بقوله عنه "وورع لا يعارضه، من انْهَلَّ بالنسك عارضه، وانقباض عن الدنيا لايساجله، من طفحت بأسرار الخشية مراجله" وهو ما تجليه رثاثة ملبسه، وتواضعه الكبير وخفضه لجناحه رغم شرفه الذي عرف به، وشدة تحرُّجه من نقد الغزالي حين أكد على أنه لم يكن يستجيز نقد أبي حامد لولا محبته للحق. برغم ذلك أفضى الرجل إلى محنة عظيمة، ومنعه الدهماء وولده من دخول المسجد ونفي من قبل يعقوب بن يوسف الذي أوغر حساد ابن رشد صدره عليه، إذ أوعزوا إليه أن ابن رشد قد ذكره في كتاب له ب سلطان البربر، كما ادعوا عليه إنكار وجود قوم عاد وإهلاكهم بريح صرصر عاتية، ويذهب ( رينان) إلى أن تعصب الموحدين وكراهة الفلسفة هما السبب الحقيقي لنكبة ابن رشد، إذ كان الموحدون يتصلون مباشرة بمدرسة الغزالي، إذ كان مؤسس دولتهم في إفريقية تلميذا لحجة الإسلام وعدوا لدودا للفلسفة. وبالقطع فإن رأي ( رينان) مردود عليه إذ كان ابن رشد مقربا لفترة طويلة من يوسف بن يعقوب، وابنه حتى أن محنة نفيه لم تدم طويلا إذ أعاده يعقوب إلى قرطبة وقرَّبه مجددا، والصحيح أن آفة معاداة الفلسفة تكمن في الفقهاء الذين يحجرون النصوص ويضيقيون كل واسع؛ ليصبح الدين كهنوتا قاصرا عليهم دون غيرهم، يسلّعونه ما استطاعوا؛ ليجعلوا منه مصدرا للارتزاق والتكسب، هؤلاء هم من أوغروا الصدور على ابن رشد وهم من يوغرون صدور العامة على كل (ابن رشد) في كل عصر ومصر. انقطعت خطا أبو الوليد وجف مداد قلمه وفاضت روحه إلى بارئها في مثل هذا الشهر من عام 1189م، لكن مسيره تواصل ناشرا النور في أوروبا، التي انتقلت إليها كتبه عبر ترجمات عديدة، وكانت أوروبا قبله غارقة في ظلمات الخرافة والجهل والتخلف، وبه استطاعت أن تجتاز كل ذلك نحو نهضتها الفكرية التي أسست لنهضتها الحضارية، أما بالنسبة لنا – نحن العرب- فقد استمر انقطاع خطا ابن رشد إلى يومنا هذا، وفي هذا بعض تفسير لما وصلنا إليه من سوء الحال. يقول (دي بور) في كتابه تاريخ الفلسفة في الإسلام : "لم يكن لفلسفة ابن رشد ولا لشروحه على مذهب أرسطو سوى أثر قليل جدافي العالم الإسلامي، وقد ضاعت أصول الكثير من مؤلفاته، وإنما وصلت إلينا مترجمة إلى اللغة العبرية أو اللاتينية. ولم يكن له تلاميذ ولا أتباع يواصلون فلسفته، ولم تستطع فلسفته أن تؤثر في الثقافة العامة أو مجرى الحوادث". رحم الله أبا الوليد.