في عشرينات القرن الثالث عشر الميلادي قام (ميخائيل سكوتوس) بترجمة أهم كتب ابن رشد، وكان ذلك في صقلية في بلاط الملك (فريدريك الثاني)، ومنذ هذا الوقت بدأ الفلاسفة واللاهوتيون اللاتين في اتخاذ مواقف متباينة حيال الرجل وفلسفته وشروحه لأرسطو، وكان على رأس من تبنوا موقفًا عدائيًا متطرفًا (توما الأكويني) الذين قال نصًا "إنَّ الشارح ليس مشائيًا بمقدار ما هو مفسد للفلسفة المشائية". وفي العام 1266م "حَرَّم أسقف باريس (أتين تومبيه) دراسة كُتب ابن رشد في جامعتها وسماه رأس الضلال" وفي نفس السنة صدر الأمر من روما بتأييد أسقف باريس في قرار التحريم، وبعدها بثلاث سنوات، وبعد أن أصبح أسقف باريس عضوًا في جامعة باريس دعا لجمع أساتذة اللاهوت في الجامعة، والاتفاق معهم على تحريم ثلاث عشرة قضية كلها قواعد رشدية مألوفة". ورغم كل هذا البطش بفكر ابن رشد على مدار سبعين سنة بقي فكره قويًا ومُتغلغلاً في جامعة باريس مما جعل الأسقف (تومبيه) يتخذ إجراءات أكثر حدة "نصت على تحريم أكثر من مئتي قضية مشائية عامة ورشدية، ووجه هذا التحذير إلى أساتذة كلية الآداب بباريس". ويُرجِع البعض السبب في هذه الحرب التي شنتها الكنيسة على فكر ابن رشد إلى طرح فلسفي جاء غامضًا في كتاب النفس لأرسطو يتلخص في السؤال: هل العقل واحد يشارك فيه جميع البشر وبه يعقلون؟ أم أنَّه خاص بكل إنسان فرد يصح بموجبه القول: " إنَّ هذا الإنسان يعقل". ولا ندري على وجه الدقة من أين استقى هؤلاء ما يفيد أنَّ ابن رشد تبنى هذا الطرح الفلسفي القائل ب(وحدة العقل) ويبدو أنَّ الترجمات اللاتينية قد خلطت بين رأيه ورأي غيره، ثم أنَّها اعتُمدت لفترة طويلة، دون ظهور أي محاولة للتمحيص بالعودة إلى الأصل العربي! ويقول الدكتور غانم هنا محاولاً تفسير ذلك"غير أن الباحث في هذه القضية يُفضِي إلى وجود مسلمتين، اعتبرتا يقينيتين، الأولى أنَّ النص اللاتيني قد نقل ابن رشد على حقيقته. وتقوم الثانية على اعتقاد سائد بأن ما نسبه المفكرون اللاتين إلى ابن رشد هو دون شك رأي الفيلسوف العربي. ويرجح هذه الأقوال أنَّ النص العربي لشرح ابن رشد المطول (التفسير) لكتاب النفس لأرسطو، وهو المرجع الأساسي لقضية (وحدة العقل) لا يزال مفقودًا، بينما حفظت ترجمته إلى اللاتينية في نسخ عدة ترجع إحداها إلى عام 1243م وقد تم تحقيقها تحقيقًا علميًا دقيقًًا وأصبحت المصدر المعتمد من قبل الباحثين في حين لم تحظ النصوص العربية ذات العلاقة بالموضوع والمتناثرة في كتب أخرى لابن رشد بالاهتمام الكافي. ومن منطلق مراجعة وتصحيح ما وجد في الأبحاث حول (وحدة العقل) يجهد هذا البحث في إقامة دلائل نصية في كتب ابن رشد وفي أصلها العربي تؤسس وتبرر حق التشكيك في صحة هاتين المسلمتين. فإذا ثبت أنَّ النص اللاتيني قد أضاف إلى الأصل العربي ما ليس لابن رشد وأنَّه يخالف مخالفة صريحة النصوص العربية الواردة خارج (الشرح المطول لكتاب النفس) وثبت من هنا أنَّ (الشارح) لم يقل بوحدة العقل المنسوبة إليه في الفكر اللاتيني؛ لأصبح لزامًا علينا أن نبرئ ابن رشد من أبوة وحدة العقل". وبسبب هذا الالتباس الذي كان من شأنه إشعال النار في الفكر الأوربي (القروسطي) تطور الأمر بصورة متسارعة، إذ عُدَّت أفكار ابن رشد من قبل السلطات الدينية خطرًا على العقيدة الدينية المسيحية، وتهديدًا لعقيدة خلود النفس الفردية ومسئولية الإنسان عن أفعاله، تبِع ذلك ملاحقات لمعلمي الفلسفة الرشديين الذين لاذ بعضهم بالفرار، وأودع آخرون السجن، ولقيَّ نفر منهم حتفه بسبب اتهامه بالخروج على التعليم الرسمي. على عكس ما كان من رجال الدين أتباع المدرسة الدومنيكانية نجد حفاوة بالفكر الرُشدي من المدرسة الفرنسيسية ومؤسسها (إسكندر الهالسي) الذي كان أول (لاهوتي) يقبل بما للفلسفة العربية من سطوة، بل ويقوم بنشرها، ليأتي من بعده من أتباع مدرسته؛ من كان مؤيدًا بقوة للفكر الرشدي، واعتماد آرائه وحججه منهجًا قويًا وحاسمًا في المناظرات مع المدرسة الدومنيكانية، ثم نجد(روجر بيكون) يقول: "… واليوم تفوز فلسفة ابن رشد بقبول جميع الحُكماء بعد أن أُهملت ونُبِذت وأنكِرت من قِبَل أشهر العلماء زمنًا طويلاً، ترى مذهبه، الجدير بالاحترام على العموم، قد قُدِّر شيئاً فشيئاً". ولعله ليس من نافلة القول أن نقول أن الأصولية المسيحية قد حذت حذو مثيلتها الإسلامية، شبرًا بشبر في الموقف من الرشدية من التهام بالكفر والإلحاد إلى حرق الكتب وتحريم تدريسها، غير أنَّ الفكر الأوروبي قد وعى سريعًا أهمية دورها في إنقاذ العقل من مهاوي الخرافة والتضليل، أما نحن فما زلنا نظن أن في الوقت متسع! المراجع: الرشدية اللاتينية وأولى إرهاصات الصراع بين الفكر والكنيسة. ياسين اليحياوي وحدة العقل بين ابن رشد والرشدية اللاتينية. د. غانم هنا المعجم الفلسفي. د. جميل صليبا