يمثل البحث عن لقمة العيش أساس تكوين الأسرة بالنسبة للمواطن المصري البسيط والتي تمكنه من الاستمرار في الحياة. وبالطبع فإن الفطرة البشرية والتي تنبثق منها الأبوة ترغب في إيجاد مستقبل أفضل للأولاد؛ لذا فإنه يعمل بكد ليل نهار من أجل توفير الاحتياجدات الخاصة بهم من مأكل وملبس ومسكن وتعليم إلى آخره؛ رغبة منه في أن يكونوا عند كبره وبلوغه سن الشيخوخة قادرين على تحقيق ما لم يستطع تحقيقه لنفسه، وفي سبيل ذلك البحث المضني عن النقود ينسى رب الأسرة الدور الأساسي الذي من المفترض أن يؤديه بالمجتمع وهو تربية النشء الصاعد على الأخلاق الحميدة والتواجد بصفة دائمة بجواره؛ لإبداء النصيحة في أحيان والتدخل في أحيان أخرى؛ لمنع استدراج الأولاد للتطرف الأخلاقي أو التشدد الديني بعيداً عن الصفات السوية. ولكن كيف يمكن للأب أن يفعل ذلك وهو غير متواجد بالمنزل، حيث يعمل لمدة تتجاوز 16 ساعة يوميًّا، ويكتفي بالعودة للمنزل لقضاء السويعات القليلة التي يمضيها بجوار عائلته في متابعة برامج التوك شو أو نائماً ليستريح كي يكمل نفس المسلسل في اليوم التالي؛ ليجد في النهاية نفسه لا يعلم تفاصيل حياة أولاده، وكأنه زائر أو ضيف وليس رب الأسرة؟! عبء تكوين أسرة في ظل ظروف اقتصادية طاحنة وضياع الحقوق الأساسية في ظل الأوضاع الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد حاليًّا وعدم توافر فرص عمل، بالإضافة إلى الأزمات المالية التي تلاحق المصانع والمؤسسات الكبري؛ مما يجعلها في النهاية تلجأ إلى تسريح العمالة والموظفين المتواجدين بها، نجد أنه من الصعب تكوين أسرة مصرية بسيطة، فأنت عندما تنتوي اتخاذ تلك الخطوة، تحتاج في البداية إلى الاستقرار، ولو كان نسبيًّا بوظيفة ذات عائد مادي مقبول، ثم توفير مسكن ملائم يتميز بأبسط قواعد الكرامة الإنسانية، نهاية بمحاولة تأمين مستقبل الأولاد عن طريق البحث المستمر عن عائد مادي أكبر، وذلك بإيجاد فرصة عمل إلى جانب الوظيفة الأساسية التي يشغلها، ويستمر بصفة مستمرة في الكد والتعب دونما راحة؛ للبحث عن النقود التي تؤهل أسرته للحياة بآدمية، مما يتنافي مع أبسط قواعد حقوق المواطن في العيش حياة كريمة. ويقول محمد لطفي مدير المفوضية المصرية للحقوق والحريات إن المواطن المصري البسيط لا يتمتع بأدنى درجات حقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق والمعاهدات الدولية والتي من المفترض أن مصر موقعة عليها، مشيراً إلى أن الحق في العيش حياة كريمة وتوفير المسكن والمأكل والخدمات الصحية هو حق أصيل للمواطن، ولكنه لا يحصل عليها؛ مما يجعله في دوامة مستمرة بحثاً عن النقود التي تغطي مصاريف أسرته. ولفت لطفي إلى أن ما يشهده رب الأسرة من أعباء اقتصادية ساهم في بعده عن دوره الأساسي في تربية الأولاد ومراقبة تصرفاتهم للحيلولة دون وقوعهم في مصيدة الجماعات المتشددة فكريًّا أو المنحلة أخلاقيًّا؛ نتيجة خلل مجتمعي ساهم في ضياع حقوق المواطن المصري البسيط، خاصة في إطار سعي الدولة المستمر خلال الفترة الماضية لتعويض التدهور الاقتصادي الذي طال البلاد خلال السنوات القليلة الماضية. وأشار إلى أن بحث الأب عن المادة يفقده السيطرة على الأولاد، ويدمر أواصل الارتباط العائلي، مؤكدًا أن قضية غياب الأب عن المنزل ومكوثه لساعاتٍ طويلة بعيداً عن أبنائه مسألة خطيرة، ولها أثر كبير في فقدان السيطرة الأبوية؛ لأن قوة السلطة الأبوية تقي الأسرة كثيرًا من المشكلات التربوية الأسرية، وتمثل الدعامة الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع السوي لتحقيق الأهداف المرجوة منه. وتقول الدكتور إنشاد عز الدين أستاذ علم الاجتماع بجامعة المنوفية إن انشغال الأب بالعمل والبحث عن المادة قد يجعلانه يفقد دوره الأساسي في اعتباره قائد العائلة، بل وربما قد ينسحب الأمر على نظرة أبنائه له، بحيث تتغير من المسئول إلى مجرد صراف آلي للنقود، ويفقد بذلك دوره الفعال في بناء وتكوين الأسرة المصرية. وأضافت "كثيراً ما يضطر رب الأسرة للمكوث خارج البيت لساعات، وفي بعض الأحيان لأشهر؛ مما يتسبب في انفلات زمام السلطة من الأب وبروز سلوكيات سلبية لدى الأبناء بشكل غير متوقع، ما يسبب آثاراً وخيمة، كرفقاء السوء الذين هم عبارة عن مجموعة من الأصحاب درجوا على قضاء أوقاتهم في السهر والسمر واللهو إلى ما بعد منتصف الليل، ففي حالة عمل الأب لساعات كثيرة خارج المنزل لا يكون لديه سوى سويعات معدودة يكون فيها عادة نائماً، مما قد يكون سببًا في تحطيم كيان الأسرة". مابين الانفلات الأخلاقي والتشدد الفكري.. الأولاد يدفعون ثمن غياب الأب في سبيل وصول رب الأسرة لمبتغاه بتحقيق عائد مادي كبير ظنًّا منه أنه بذلك سيحقق الاكتفاء لأفراد عائلته ويؤمن لهم الحياة الكريمة، تظهر عدة عيوب نفسية بالأطفال لا تغطيها الأموال المتحصل عليها، فقد تحدث بعض الاضطرابات في حياة الطفل، ويتجلى ذلك في مشاعر الخوف والقلق التي تنتاب الطفل بين الحين والآخر، لاسيما أثناء النوم، أو بشكل أعراض نفسية جسديه كعدم التركيز، وكثرة النسيان، والميل للعزلة، وشلل الهيكل التربوي؛ نتيجة لغياب الأب المستمر، فتضعف الجوانب العلمية والفكرية والثقافية لدي الأبناء. ويقول الدكتور أحمد هارون الخبير النفسي "يجب التنبيه على الآباء بأن الاستثمار الحقيقي يكون في الأبناء، وليس الاستثمار المالي، وأن المستقبل كفيل بإظهار معالم هذه القضية، ولن تتحقق الحاجات النفسية التي تنطلق من قلب هذا الطفل إلا بكثرة مداومته مع والده، وقد يفقد الطفل معاني الرجولة والذكورة نتيجة نقص المناعة العاطفية الأبوية، لذا لزاماً علينا أن نوجه الآباء إلى أن تربية الأبناء واجب شرعي وعرفي وأخلاقي، بينما الانشغال بتكثير الأموال ومضاعفتها أمر مطلوب ولكن ليس بواجب، فيجب ترتيب الأولويات، وعندما نعرض بعض الإحصائيات التي تبين الآثار السلبية لغياب الأب عن المنزل، سنجد أن الأمر جلل والقضية تحتاج لدراسة متأنية؛ للحيلولة دون وقوع الأخطاء التي تساهم في تشويه المجتمع. فالأسرة هي أساس بناء المجتمع، وأي خلل يلحق بها ينسحب في النهاية على المجتمع ككل. وما نشاهده حاليًّا من انفلات أخلاقي وتعدد حالات التحرش، بالإضافة إلى الانضمام إلى الجماعات صاحبة الفكر المتشدد خير دليل على ذلك". وأضاف هارون أن الشباب معذور في انعدام الرؤية من حوله، خاصة في أجواء الفتن التي يعيشها الوطن والعالم من حولنا، وقد ترك الحبل على الغارب لجماعات فكرية متطرفة تبث التطرف تارة والإلحاد تارة أخرى، مشيراً إلى أن المجتمع لم يسعَ إلى تعليم الشباب كيفية التعامل مع الأمور الحياتية، واتخاذ القرار السليم في المواقف الصعبة، وما يواجهون من هزات عنيفة على جميع المستويات النفسية منها والاجتماعية والفكرية، مشدداً على ضرورة وضع ضوابط مجتمعية لإنقاذ الأسرة المصرية من التفكك؛ للحفاظ على المجتمع ككل. الدولة عامل أساسي في التفكك الأسري أصبح فشل الحكومات المتعاقبة في توفير الحياة الكريمة للمواطن المصري عاملاً أساسيًّا في التخبط الذي تعانيه الأسر المصرية، فالحالة الاقتصادية التي تمر بها البلاد جعلت الدولة تبحث عن كافة المنافذ التي تستطيع من خلالها تحصيل نقود لتغطية العجز المالي، وغالباً ما تتجه للمواطن العادي لتقتطع من قوت يومه؛ مما يجعله يلجأ إلى العمل بعدة وظائف؛ كي يتمكن من تلبية احتياجته هو وأفراد عائلته، وبالتالي فإن الدولة تساهم بصورة كبيرة في التفكك الأسري الواقع بالمجتمع المصري خلال الفترة الأخيرة. ويقول رئيس الحزب الاشتراكي المصري، أحمد بهاء الدين شعبان، إن الفشل الحكومي في مواجهة التحديات الخاصة برفع المعاناة عن المواطن البسيط، بالإضافة إلى استمرار سوء الأحوال الاقتصادية من رفع لأسعار المواد الغذائية والبترولية مع بقاء محدودية الدخل، كل هذا ساهم في زيادة الأعباء على رب الأسرة؛ مما جعله يضحي بوقته وراحته من أجل توفير حياة كريمة لأسرته. وأوضح بهاء الدين أن السياسات الرأسمالية للحكومة تساهم في تدهور المجتمع وليس الإبقاء عليه، محذراً من مغبة الاستمرار في اتباع تلك السياسات والتي قد تؤدي في النهاية إلى تدمير الأسرة والدولة، وطالب بعدم الهجوم على رب الأسرة في سعيه المستمر للبحث عن الماديات، فهو يماثل ما تفعله الدولة وبحثها عن تحصيل الأموال بأية صورة. الإعلام ودوره في القضاء على الروابط الأسرية يلعب الإعلام دورًا هامًّا في تكسير الروابط الأسرية وتفكك العائلة، فالأوقات القليلة التي يجتمع فيها أفراد الأسرة بالمنزل لا تكون بالتجمع والحديث عن الأحداث التي مروا بها على مدار اليوم؛ لجعلها نوعًا من أنواع التواصل والتقارب، ولكن ما يحدث عكس ذلك؛ فالأب عندما يعود للمنزل، يجلس ليشاهد برامج التوك شو، ويتابع الأحداث الجارية؛ مما يمنع أي شكل من التواصل بينه وبين الأولاد، الأمر الذي ساهم خلال الفترة القليلة الماضية في اتساع الفجوة داخل الأسرة المصرية. وشدد الخبير النفسي الدكتور أحمد هارون على أهمية الدور الذي يلعبه الإعلام، سواء سلبًا أو إيجابًا، فمن جانب يجب التدقيق في المادة المقدمة بالبرامج؛ لتكون هادفة، ومن جانب آخر يجب أن تحتوي بعض تلك البرامج على ملفات تخص الأسرة مجتمعة؛ كي يلتئم شملها في متابعة البرنامج، الأمر الذي قد ينتج عنه بداية تواصل نوعي بين أفراد الأسرة مجتمعين. وطالب الخبير النفسي بتجمع أفراد الأسرة لمدة نصف ساعة فقط يوميًّا دون وسائل تكنولوجية وما شابه ذلك، والتحدث فقط عما مر به كل فرد طوال اليوم من أحداث، ومشاركة باقي الأسرة به؛ مما سيساهم في التقارب بشكل أفضل فيما بينهم ورأب الصدع الناتج عن الدوامة المسماة البحث عن المادة. مساهمة المؤسسات التعليمية في الانفلات الأخلاقي بالمجتمع يرى خبراء أن المؤسسات التعليمية في مصر يسيطر عليها الجمود والتخلف، ولا تصلح كي تكون عاملاً أساسيًّا في تربية الأطفال، فهي بحاجة إلى تجديد وتطوير، وربما إزالة، والبدء من جديد، فالاعتقاد السائد لدى رب الأسرة بأن المؤسسة التعليمية ستكون كافية لتأخذ مكانه وتقوم بواجباته في إطار تربية الأولاد أمر ثبت خطؤه، ولم يعد بالإمكان القول في ظل حالة الانفلات الأخلاقي بالمجتمع حاليًّا إن المؤسسات التعليمية كانت بمعزل عن ذلك، بل إنها تعد مساهمة في ذلك الانفلات؛ نتيجة السبل الخاطئة المنتهجة من قِبَلها للتربية والتعليم. يقول الدكتور كمال مغيث، أستاذ المناهج التعليمية، إن الحديث عن وجود دور للمؤسسات التعليمية باختلافها، سواء كانت تابعة لوزارة التربية والتعليم حكومية كانت أو خاصة، أو كانت أزهرية، أمر غير صحيح بالمرة، فتلك المؤسسات لا تقدم للطالب منهجًا تعليميًّا جيدًا، فكيف بها أن تقدم له التربية والأخلاق، مشيراً إلى أن تلك المؤسسات غير صالحة للتعامل مع الشباب والأطفال. ويؤكد الخبير التعليمي على ضرورة مراجعة الدولة لمؤسساتها التعليمية في حال توافر رغبة فعلية لديها في تحسين الوضع التعليمي والأخلاقي للأطفال والأجيال الصاعدة؛ كي نصل إلى المرتبة التي نرجوها كمصريين من التقدم الفكري والأخلاقي.