كان بلا مكان, ملك إنسان, يتلاطم فى بلاط مُلكه حَدَثان الدَّهر. وكان متكلم القصر يُبحر فى أمواجه خشية الغرق, يمتطى جواده الجانح على قارب الكلام . كان متكلم القصر يجلس على كرسيه المخصص فى بلاط القصر, يُدهش الحضور المزدحم بتلويحاته وتصريحاته. كان متكلم القصر والسادة الحضور مدعويين فى بلاط الملك فخر الملوك والسلاطين المنصور المؤيد، والعز المؤبد، والثناء المخلد، المقام الكبير السني، الجليل السمى العالي، الملك الهمام، العلي أمره، الرفيع بين أقدار السلاطين قدره، الجواد الباذل، الأطول الفاضل، التقى الصالح، والعقل الراجح، والمجاهد الأمضى، الأسعد الظاهر، الأشرف الطاهر، المفتَخر به هذا العصر على غيره من الإعصار، الذي رُفع قدره على جميع الأقدار، الشهير المناقب، العلى المراتب، الهمام الأوحد، الأشرف الأمجد، المثيل الخطير، الشهير الكبير، الكريم المآثر، السامى المفاخر، والملجأ الأعصم، كافل الأمة، وغياث الرحمة، ذو الجهاد المقبول والغزوات الشهيرة، الحسن السيرة، السليل السريرة، السلطان المعظم، الكبير الممجد، قامع الكفار، وفتاح الأقطار، المعظم الكبير الأضخم، المخصوص بالسعادة في أمره كله، الأطول الباسل، الجلود الفاضل، ملك الدنيا الذى وقع عليه الإجماع والإصفاق، والتأم الاتفاق، وتحدث بسيرته الجميلة الرفاق، مكتنف الأرض بسلطانه، والظفر مبتسم عن سنانه، والنجح عاقد لوائه، والحمد نسج ردائه. معمور الأرجاء، موفور النعماء، مضمون النماء، مصون السراء، محجوب الضراء، شرف دولته على جميع الدول، وملوك الأرض لها الأتباع, شاهنشاه الدنيا… إلى آخر الديباجة المكتوبة على باب قصره المنيف, ألقاب ومآثر ومفاخر أنست الخطاط المحكم أن يذيلها باسم صاحبها…. كان الحضور فى البلاط بأمر صاحبه دعاهم يوماً غابراً وقت الضحى ليطرح عليهم ويقصص رؤياه إليهم . قال بعد أن استقام الحضور جلوساً: بسم رب البيت عالم كل حال, جمعتكم اليوم يا ذهب الدنيا, وتبر مُلكى, وخاصة خواصى, لا خاصتى, لأمر قد أهمنى. رأيتُ نهراً بين جبال خضراء, صافية الهواء, كان الحِلمُ يتلطف بنا فى بهاء, كنت أمشى الهوينا على ضفته أداعب الماء كىى تطول تلك اللحظات, حتى تعثر قدمى بحجر لآزوردى ظننته من دقة شفافيته وتماهيه ماء . حدثنى اللآزورد أيها الحضور لماذا حركتنى ياإنسان؟ أعيدنى لمكانى وموضعى أو اختصمك للماء, وهذا الهواء, لتذوق ناراً أشعلتها… اضطربت أيها الجمع الكريم, وغالبنى كبريائى, تجاهلت أصل السؤال … أخرجت له من مقامى متدرجاً فى نبض حروفى وكلماتى: وأنت.. أى نار تذوقتها أيها اللآزوردى وسط كل هذا البهاء, وأنا الذى لم أبصرك قط إلا الآن كيف أُعيدك إلى لا مكان أىُ نار أيها الساكن فى قلب النعمة؟! حدثنى اللآزورد: أو تفهم نحوى أيها الغريب البائس, فى قلب النعمة غرّبتنى عن موضعى, وللغربة فعلُ نأي عن رحم الحركة, هى أيها الغريب طموح قسرى نحو مسار جبرى, كأمر بين أمرين . أرفق قاطعته , وأرحم بحق فيض هذا النهر, وأُنسك بين الجبال . لم يلتفت اللآزورد وأردف أيها البائس الغريب, للغربة فعل "فيض" لاشأنٌ كمحتوم,, علةٌ ما. للغربة فعل نأي عن رحم الحركة, طموح قسرى نحو مسار جبرى, كأمر بين أمرين, للغربة فعل "فيض" لا شأنٌ كمحتوم…. هلكنا وهلك المَلك هكذا أعاد وصاح أحد الحضور… ظن أن المَلك يقصص رؤياه عليهم من داخل الرؤيا ذاتها, يستعيد عليهم حلمه من داخل الحلم ذاته. ربما أراد تنبيهه…. أخرج الملك سيفه من غمد الحلم, وصاح يرعب حبائل أفكارهم, سأقطعكم إرباً إرباً … أو مثلك يتهكم فى حضرتى وحضورى … همس الجالس عن يمين الملك: تمكن هلع اللآزود فى قلب الملك, هلَكنا وهلك الملك, ربما فطن الجالس عن يمين الملك أن صيحة رعب المَلك, ولأول مرة فى حياة الملك, أن يصبح مرتعباً, أن يصيح رعباً لأنه ارتعب من ما لا يمتلك. صمت كل الحضور, صار بالكل شجون ومعارك للحروف المشتعلة فى أرواحهم الساكنة فى حضرته وحضوره, نزل الملك درجةً عن كرسى عرشه, أبت نفسه أن يغمد سيفاً شهره الخوف, وفور أن أدرك أين يقف… خاطبهم فى هدوء: ياكرام النفوس, السعداء العاجزون عن الاستعلاء, ألا لأحدكم حاجة أقضيها له بنفسى, أنا الجالس على هذا الكرسى المرتفع قليلاً عن كراسيكم الموقرة. أشار بيده أحدهم الجالس فى نقطة ما بالبلاط المستدير: هل دعوتنا للتفسير والتأويل فى رؤياك, أو جمعتنا لينتصر أحدنا على خصمه, شرفك بيننا يأبى أن يفهم أحد الحضور قط أن هذه غايتك, وما جمعتنا إلا لتحدثنا عن جوهرية الكمال فى كلٍ من الجلال والجمال, لنجدد لك يوم البيعة المُلك, فدع عنا رؤياك واللآزورد, وإلا فالغربة علةٌ ما… بين القدرة والإرداة, كجوهرية الكمال فى كِلا الجلال والجمال.