كان فريدريك الثاني شديد المقت للفاشية، وهو ما دفعه إلى التمرد على سلطان أبيه الملك. لكنه لم يذهب بعيدا حين حاول الفرار من القصر مع صاحبيه حتى أمسك بهم جنود الملك وأعادوهم قسرا إلى حظيرة الطغيان. وأُجبر فريدريك الطفل على مشاهدة رأسي صاحبيه تقفزان فوق أكتافهما ونافورتي دماء تقصان أثرهما. ومنذ ذلك الخوف، تعلم فريدريك الثاني أن ينظر موضع قدميه قبل أن يتقدم نحو أي غاية. تولى فريدريك الثاني خلافة العرش عام 1712، وظل ملتصقا بالكرسي أربعة عشر عاما كاملة. وبمجرد توليه مقاليد الحكم، شن حربا ضارية على النمسا وخرج منها بوجه غير الذي ذهب به - هكذا تعلمنا القسوة أحيانا. لكن هذا المغلوب على فرعونيته كان يحب الأدب ويعشق الشعر، ويتودد إلى كتاب عصره، وهو ما يفسر حميمية العلاقة بينه وبين فولتير، الأديب الفرنسي اللامع. لكنه، والحق يقال، استطاع إبان فترة حكمه أن يخفف من وطأة استبداد من سبقوه إلى بلاط القصر الملكي، وأن يبني امبراطورية بروسية كبيرة، مما جعل المغلوبين على حكمه يطلقون عليه لقب فريدريك الأكبر. وكان بيت ذلك الفريدريك يضم بين جنباته كل مساء كوكبة من رجال الأدب ويشهد جولات وصولات من المناظرات الأدبية الراقية بين الملك وجلسائه. لكن فريدريك احتد ذات أمسية على أحد مناظرية واقتادة من رقبته كفأر الجرن حتى ألقاه خارج قصره وأوسعه ضربا بناصية حذائه الخشبي - هكذا تفرخ بيوض القهر في نفوس المستضعفين، وتنتقل جينات القسوة بين الأصلاب. بعد تلك الموقعة، عرف الحاضرون موقعهم من الحذاء، فصاروا يداهنون الملك ويمعنون في مسح الجوخ وتلميع فردتي القهر الملكيتين، إلا أن أحد الندماء لم يكن عند مستوى المسئولية التاريخية، فلم ينحن كما يجب، ولم يحسن وضع خده على بلاط الملك. لكن سموق هامته الأدبية جعله أحد المغلوبين على مجالسة رجل يجيد الاستماع لمادحيه وينفر من كل من يوسع بين منكبيه في حضرته. لهذا آثر صاحبنا الصمت وألزم لسانه الإقامة الجبرية بين فكيه. وحين طال صمته، افتقد الملك صوته، فسأله عن سر وجومه، فقال: "يستحيل أيها الملك المعظم أن أعبر عن رأيي الشخصي في حضرة ملك يؤمن بما يدافع عنه كل هذا الإيمان، ويمتلك حذاء قاسي النعل كحذائك." كيف يمتلك المرء في هذه الأيام القاسية لسانه في ظل كل هذه الفوضى الفكرية التي استبدلت الفكرة بالتهمة، والحجة بالإهانة، وكيف يستطيع المفكرون الخروج من دائرة حصار الرأي الآخر بين أناس يؤمنون بمواقع أقدامهم كل هذا الإيمان ويثقون في نعالهم كل هذا الثقة؟ وكيف تخرج البلاد آمنة على عرضها في طريق يتربص فيه قُطّاع الفكرة بقوافل الحلم العائدة من الميادين حاسرة الرأس؟ وأين المفر من بلاط يمتد من رأس الوطن إلى إخمص حدوده يجيد رواده الملوك طعن الفكرة بالرمح وركل المتحاورين بالأحذية وضربهم بالأسلحة البيضاء التي تعري لحوم الميادين المحرمة وتأكل لحوم العلماء المسمومة؟ كيف تجد الفكرة طريقها تحت ظلال فئوس ترفض أن توضع في أغمادها طالما استمر الحوار ودار النقاش؟ ما يحدث في بلادنا اليوم من اقتتال فكري على رؤي غير قابلة للحسم أو التوافق، يذكرني بهندي أحمر وقعت عيناه على ثمرة برتقال وهو على صهوة جواده، فقرر أن يلتقطها بمقدمة سيفه، لكن النصل كان قصيرا كأفهام البعض، فهداه حصانه إلى السوق، واشترى سيفا طويل النصل وعاد إلى برتقالته، فلم يجدها لأن رجلا فقيرا حافي القدمين لا يملك سيفا ولا صهوة قرر أن يمد يديه إلى الحلم فيقطفه دون حاجة إلى حذاء. الفكرة الحرة ترفض الأحذية الثقيلة ومنتعليها، وترفض النوم في بلاط الملوك الذين يفرضون رؤاهم بنعالهم الخشبية على جماجم تعرجت من طول طرق حتى تشوهت معالمها. نريد مائدة حوار حر وفكرا يتنفس ملأ رئتيه ليخرج الوطن من بلاط الحكام إلى رحابة الميادين وينام تحت صفصافة ريفية قرب جدول صاف من أدران الخلافات السياسية والفكرية والمذهبية. نريد وطنا مثقفا يعبر فيه المفكرون عن رؤاهم دون مواربة ودون خوف من متتبعي الأثر أو أصحاب الأحذية الثقيلة.، ونريد وطنا حرا لا يلتزم بالإقامة الجبرية بين فكي التاريخ. أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.