شرعت الولاياتالمتحدةالأمريكية، في أعقاب انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي؛ في البحث عن مصدر جديد لتهديد للأمن والسلم الدوليين بديلا عن الخطر الشيوعي، وهو الأمر الذي يبرر لها الحفاظ على شبكة تحالفاتها العسكرية، وزيادة قدراتها الدفاعية، وتدعيم مكانتها الدولية. وقد وجدت الولاياتالمتحدة ضالتها في خطر "الدولة الفاشلة" الذي بدأت في الترويج له، كونه أبرز مصادر تهديد الأمن القومي الأمريكي، بل وتهديد السلم والأمن الدوليين. وعلى مدار عقد ونصف، هي عمر مقياس "الدولة الفاشلة"، منذ منتصف التسعينيات إلى نهاية العقد الأول في الألفية الجديدة؛ شغل هذا المقياس الحيز الأكبر في سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية، وفي استراتيجيتها للأمن القومي. وهو ما أكسبه زخمًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية. وفي هذا الإطار، قدّم مايكل مازار، أستاذ استراتيجية الأمن القومي في كلية الحرب الوطنية في واشنطن، في مقال له بمجلة "فورين أفيرز" تحت عنوان "صعود وأفول مقياس الدولة الفاشلة"، رؤية حول تطور مقياس الدولة الفاشلة في إطار السياسة الأمريكية، وأسباب تراجع هذا المقياس، ومستقبل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي فيما بعد هذا المقياس. نشأة مقياس الدولة الفاشلة يتناول مازار في هذا الجزء نشأة مقياس "الدولة الفاشلة"، ودخوله في دائرة اهتمامات صانع القرار في الإدارة الأمريكية؛ حيث يشير إلى أن خبراء الأمن القومي في الولاياتالمتحدةالأمريكية عكفوا في أعقاب انتهاء الحرب الباردة على دراسة أبرز المصادر التي تهدد الأمن القومي الأمريكي، والمصالح الأمريكية حول العالم. وقد خلصوا إلى أن أخطر تلك المصادر هي "هشاشة هياكل الدول" التي تولّد حالات من العنف والفوضى. وقد جاءت تجارب الصومال وهاييتي ويوغوسلافيا في منتصف عقد التسعينيات لتدعم هذه الافتراضات. مما دفع وكالة الاستخبارات الأمريكية في عام 1994 إلى تمويل قوات، تكون مهمتها الأساسية التعامل مع قضايا "الدول الفاشلة". وفي عام 1997، أصدرت إدارة كلينتون القرار الرئاسي رقم "56″ الخاص ب"إدارة عمليات الطوارئ المعقدة"، الذي أكدت من خلاله تركيز جهود السياسة الأمريكية على تلك النزاعات الإقليمية المتزايدة، والصراعات العرقية المسلحة، والحروب الأهلية التي باتت تشكل تهديدًا للسلام والأمن الدوليين. ولكن وُوجهت الإدارة الأمريكية بموجة واسعة من الانتقادات فيما يتعلق بجهود إعادة بناء الدول الفاشلة، والتي تم اعتبارها خطأ استراتيجيًّا جسيمًا. وهو ما دفع جورج بوش في حملته الرئاسية عام 2000 إلى انتقاد نهج كلينتون، والاتجاه نحو تقليص الوجود العسكري الأمريكي في الخارج، مُشككًا في جدوى عمليات إعادة البناء. وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتمثل نقطة تحول في استراتيجية إدارة بوش للأمن القومي، إذ بدأ يعلو الحديث -في أروقة الإدارة الأمريكية والأوساط الأكاديمية- عن أن الدول الفاشلة أصبحت أخطر مصادر تهديد الأمن القومي الأمريكي؛ حيث إن تلك الدول توفر ملاذًا آمنًا للإرهابيين، وكذلك تحتضن الجريمة المنظمة، كما أنها تقوّض الجهود العالمية للسيطرة على التهديدات البيئية والوبائية. وهنا بدأ مازار في تحليل الزوايا المختلفة لتزايد القلق من الدولة الفاشلة؛ فإحدى زوايا التحليل تشير إلى انعكاس واقع الصراعات العنيفة التي تعاني منها بالفعل الدول النامية على مصالح وأولويات الأمن القومي الأمريكي. أما الزاوية الأخرى، فترى أن "مقياس الدولة الفاشلة" هو "بدعة فكرية" وجدت لها مجالا رائجًا في أوساط الصحافة ومراكز الفكر والمؤتمرات، وغيرها. ومن زاوية ثالثة، يمكن اعتبار مقياس الدولة الفاشلة قد جاء حلا لقلق صناع القرار في السياسة الأمريكية، حول تقلص النفوذ والدور الأمريكي على الساحة الدولية عقب انتهاء الحرب الباردة؛ حيث إن خطر الدول الفاشلة ساعد في تجديد زخم النفوذ الأمريكي على الساحة الدولية، من خلال قيادتها لتحالفات دولية تسعى للتصدي لخطر الدول الفاشلة، وتضمن استمرار سيادتها العالمية. أسباب تراجع مقياس الدولة الفاشلة يتناول مازار في هذا الجزء من المقال الأسبابَ التي أدت إلى تراجع مقياس الدولة الفاشلة بعد رواجه في الفكر الاستراتيجي الأمريكي والعالمي على مدار عقد ونصف؛ حيث إن الصعوبات العملية التي واجهت مهام بعثات "بناء الدولة" دحضت الأسس الفكرية التي قام عليها هذا المقياس في السابق، وقد رصد مازار هذه الأسباب على النحو التالي: أولا: تبين أن التهديد الذي تشكّله الدول الضعيفة والهشة، هو أقل إلحاحًا مما صوّره البعض في البداية. حيث نجد أن مؤشر الدول الفاشلة لعام 2013 الذي تصدره مجلة "فورين بولسي" لم يتوافق مع قائمة أولويات الأمن القومي الأمريكي. فعلى الرغم من وضع الإرهاب على قائمة التهديدات التي تمثلها الدول الفاشلة؛ فإنه يبدو عدم وجود علاقة قوية تربط بين القائمة الحالية للدول الفاشلة وخطر الإرهاب، فمن بين عشرين دولة على رأس قائمة الدول الفاشلة، لا تظهر على قائمة وزارة الخارجية الأمريكية للدول الراعية للإرهاب سوى دولة واحدة منها هي السودان، وباقي الدول لا يربطها بالإرهاب سوى اتصال هامشي في أحسن الأحوال. ثانيًا: يفتقر مفهوم الدولة الفاشلة إلى الصرامة في التعريف؛ حيث لا توجد مجموعة مترابطة من المعايير التي تحدد ماهية الدولة الفاشلة، ويستعين مازار في هذا السياق بما ذكره خبير العلوم السياسية "تشارلز كول"، حول أن هذا المفهوم هو نتاج "تكتل من المعايير المتنوعة" التي عملت على "إضفاء التجانس على مجموعة من المشاكل المختلفة التي تتطلب حلولا محددة ومصممة خصيصًا لها". وقد أدى هذا الخلل المنهجي إلى عدم نجاح مهام "إعادة بناء الدول"، والتي نزعت إلى فرض ذات الحلول العامة والعالمية على سياقات متمايزة. وهنا جادل مازار بأن المخاطر التي تم ربطها بمقياس الدولة الفاشلة، ليست مقتصرة على تلك الدول. فعلى سبيل المثال، ينتمي أخطر إرهابيي العالم إلى الطبقة الوسطى، وغالبًا ما يكونون من دول مثل: المملكة العربية السعودية، وألمانيا، والمملكة المتحدة. وكذلك فإن الجماعات الإرهابية التي تتمركز في الدول الفاشلة إذا أحست بالخطر في الاستمرار في تلك الدول، فإنه يمكنها أن تنقل مركز عملها إلى دولٍ أخرى، وهو ما يتسبب في تعدد مصادر العنف والإرهاب التي تهدد أمن الولاياتالمتحدةالأمريكية. وهو الأمر الذي ينطبق أيضًا على تهديدات الجريمة المنظمة. ويشير مازار إلى أن الترابط والاعتماد المتبادل في أنحاء العالم قد ولّد العديد من التهديدات، وسهّل انتقالها من دولة لأخرى، وغالبًا ما تكون الدول القوية مصدر تلك التهديدات، مثل: التقلبات المالية، والهجمات الإلكترونية، والتي قد تكون أشد خطرًا من الإرهاب. ثالثًا: تراجع الثقة في قدرة الحملات التي تقودها الدول الكبرى على إعادة بناء الدول الفاشلة، فالعولمة قد خلّفت نظامًا اجتماعيًّا مُعقدًا، يصعب معه أن تقوم فواعل خارجية بعملية إعادة بناء قسري للدول الفاشلة، أو أن تقوم بعمليات تغيير سياسي، أو اقتصادي، أو ثقافي واسعة النطاق. حيث يؤكد مازار أن أي محاولات خارجية لفرض التغيير على الحكومات والشعوب غالبًا ما تقوّض دوافع الإصلاح لدى تلك الدول، لأنه بذلك تنتقل مسئولية الإصلاح من القادة المحليين إلى الفواعل الخارجية، وهو ما يرتب حالة من التبعية تعوق عملية الإصلاح بشكل دائم. وتؤكد ذلك التجارب الناجحة في دول مثل: كوريا الجنوبية، وتشيلي، التي تمت فيهما عملية الإصلاح بشكل تدريجي عن طريق قيادة محلية حاسمة، وصاحبة رؤية، وبأسلوب احترم سياقات الدولة، وخصوصيتها الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، والدينية. رابعًا: يرى مازار أن اهتمام الإدارة الأمريكية بقضية الدولة الفاشلة، وإعادة بنائها؛ قد أثّر سلبًا وبشكل عميق على قدرتها على أداء دورها في الحفاظ على استقرار وتوازن النظام الدولي. حيث سعت الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية إلى الحفاظ على استقرار النظام الدولي من خلال تأسيس تحالفات عسكرية لحماية حلفائها، وردع أعدائها، وإنشاء هيكل عالمي للتجارة والتمويل. وقد أدى ظهور هاجس قضايا الدول الفاشلة إلى تآكل الدور الأمريكي في القضايا الاستراتيجية الكبرى، ومجابهة التهديدات الجوهرية لاستقرار النظام الدولي على حدٍّ سواء، فقد تقلّصت القدرات الإبداعية للدبلوماسية الأمريكية، وانصرف المسئولون الأمريكيون عن الاستجابة بشكل مناسب لتغيرات المشهد العالمي. فعلى سبيل المثال، في الفترة من 2003 إلى 2011، ركّزت الإدارة الأمريكية على إدارة الفوضى التي خلّفتها الخلافات السياسية في العراق، دون الاهتمام بمحاولة جذب ولاء قادة الدولة الصاعدة حديثًا مثل: البرازيل، وتركيا، والهند. بل إن جهود "إعادة البناء" كلّفت الولاياتالمتحدة، في بعض الأحيان، خسارة علاقات سياسية ودبلوماسية هامة مع دول عدة، كما هو الحال في ردود الفعل الدولية على حرب العراق 2003. خامسًا: يذهب مازار إلى أنه لكي تتمكن الولاياتالمتحدةالأمريكية من أداء دورها في الحفاظ على استقرار النظام الدولي؛ يجب أن تمتلك قوات مسلحة على درجة عالية من التسليح والتجهيز، بما يمكّنها من أداء أدوار حاسمة في حالات الطوارئ والصراعات الدولية المسلحة، عن طريق ضربات عسكرية سريعة وبعيدة المدى. ولكن مع انخراط الجيش الأمريكي في عمليات "إعادة البناء"؛ انحرفت استراتيجية التدريب والتسليح في هذا الاتجاه، دون الاهتمام برفع الكفاءة القتالية للجيش الأمريكي، وهو ما جعله اليوم يفقد الكثير من كفاءته في العمليات القتالية. ماذا بعد مقياس "الدولة الفاشلة"؟ يحاول مازار في هذا الجزء بالأساس اقتراح استراتيجية مستقبلية للولايات المتحدةالأمريكية لمرحلة ما بعد مقياس الدولة الفاشلة؛ حيث يؤكد على أن الاهتمام بالتهديدات التي تمثلها الدول الفاشلة، لا يمكن أن يختفي كليًّا من أجندة السياسة الخارجية والأمن القومي للولايات المتحدة، فعمليات مكافحة الإرهاب لا تزال على درجة من الأهمية، كما أن الاضطرابات الداخلية في الدول النامية قد تكون لها عواقب خارجية وخيمة تحتاج إلى تعاطٍ مناسب من جانب الولاياتالمتحدةالأمريكية. ويركز مازار هنا على فكرة ترتيب الأولويات، ومستقبل مواجهة تهديد الدول الفاشلة، وعمليات إعادة الاستقرار في تلك الدول؛ حيث تُشير التقارير الاستراتيجية إلى أن القوات المسلحة الأمريكية لن تكون مستعدة لخوض عمليات طويلة المدى فيما يتعلق ب"إعادة الاستقرار"، ولكن عمليات محددة الأهداف ومنخفضة التكلفة. فمن المرجح أن تتخلى الولاياتالمتحدةالأمريكية في المستقبل عن فكرة استعراض القوة خارجيًّا، وتستبدلها بتركيز الجهود على تدعيم قدرات الحماية الذاتية في الداخل، من حيث تطوير وتأمين شبكات المعلومات وشبكات الطاقة، وتحسين الاستجابة للطوارئ ومتطلبات الأمن السيبراني، بالإضافة إلى تطوير القدرات الاقتصادية للحد من آثار الصدمات والأزمات المالية المتوقعة. ويضيف مازار أن على الولاياتالمتحدة أن تستبدل جهود إعادة البناء والاستقرار، بعلاقات ذات طبيعة جديدة مع تلك الدول الفاشلة، تقوم على أساس التقدم التدريجي في العلاقات، وتقديم المساعدات طويلة الأجل، وذلك في مختلف المجالات: العلاقات الاقتصادية، التنمية البشرية، العلاقات العسكرية، سياسات التجارة والاستثمار. وأخيرًا يستعرض مازار مجموعةً من الأدوات التي يمكن أن تستخدمها الولاياتالمتحدةالأمريكية في مواجهة التهديدات التي قد تُطل من الدول الفاشلة. فلمواجهة الإرهاب، على سبيل المثال، من الممكن أن تتعاون الولاياتالمتحدة مع الوكالات المسئولة عن إنفاذ القانون في تلك الدول -المصدّرة للإرهاب- عن طريق تقديم التدريب والدعم اللوجستي لها، كما يمكن استخدام الجهود الاستخباراتية والعمليات السرية التي تقوم بها مجموعة محدودة من القوات الخاصة على نطاق محدود، وفي إطار التنسيق مع الجيوش الوطنية لتلك الدول. مايكل مازار عرض: محمد محمود السيد، باحث متخصص في الشئون العربية