وفقا للصياغة الجديدة لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي أعلنها الرئيس باراك أوباما في 27 مايو، حددت الإدارة الأمريكية أسبقياتها التي تتناول، مراجعة الاقتصاد الأمريكي، ودعم قوتها العسكرية، والتأكيد علي الأخلاقيات الأمريكية، والقدرة علي الابتكار، في إطار الهدف الأعلي وهو الاستمرار الأمريكي في قيادة العالم. كان ملفتا، أن يؤكد الرئيس أوباما في عرضه لخطوط الاستراتيجية الأمريكية علي أنه مثلما فعلت الولاياتالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في قيادة العالم ، فإنها تعمل الآن علي صياغة "نظام عالمي جديد" يعتمد علي مؤسسات دولية تعكس روح القرن الحادي والعشرين، وبما يمكن معه تبين حقيقة التفاعلات التي تجري خلف الأفق، بهدف تبني استراتيجية التجديد القومي لزعامة أمريكا للعالم، بما يضمن للولايات المتحدة استمرار القوة والنفوذ، ومن خلال إعادة بناء المؤسسة الأمريكية. وعلي الرغم من سعي الرئيس أوباما إلي تفعيل عنصر " التجديد " في الاستراتيجية الأمريكية، خلافا لمبادئ " الحرب الاستباقية " و" التصدي للدول المارقة "، في الاستراتيجية السابقة، فإن الصياغة الجديدة ارتكزت جوهريا علي تأكيد أهمية القوة العسكرية في حماية الأمن القومي الأمريكي، والنظر للأمن من منظور عسكري بالأساس، بما يجعل الولاياتالمتحدة الدولة الوحيدة القادرة علي القيام بعملية عسكرية، بحجم كبير، وتمتد علي مساحات واسعة، بدون تبديد لطاقة القوات الأمريكية، ومن خلال تحميل الشركاء دورهم في هذا الصدد. وإلي جانب الجمع بين منهاجية العمل الدبلوماسي، وعنصر القوة العسكرية، لتنفيذ أهداف الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي، فإنه يجري العمل لاعتماد مفهوم جديد للشراكة العالمية، يرتكز علي دفع واقناع القوي الصاعدة في العالم مثل الصين والهند والبرازيل، لتأييد الأهداف الأمريكية، ومساعدة الولاياتالمتحدة في إدارة الشأن العالمي. محفزات التغيير تحت عنوان " العالم الذي نسعي إليه " طرحت إدارة الرئيس باراك اوباما خطوط الاستراتيجية السياسية والعسكرية لحماية الأمن القومي الأمريكي في المرحلة القادمة، وبما يوحي تماما بأن الإدارة الحالية تغير المسار الأمريكي جذريا عنما كانت عليه في ظل الإدارة السابقة. هذا الاتجاه الأمريكي للتغيير، جاء علي خلفية " انتقادات حادة " وجهت إلي الاستراتيجية الأمريكية السابقة، بدعوي أنها فشلت فشلا ذريعا في تحقيق أي من الأهداف الأمريكية، من هذه الانتقادات : الافراط في الانفاق العسكري، وإضعاف البنية الداخلية وتعريض الأمن الداخلي للخطر، والعمل المنفرد وعدم إشراك الحلفاء في عبء تنفيذ العمليات العسكرية التي اضطلعت بها القوات الأمريكية ، والفشل في تحقيق هدف نشر الحرية والديمقراطية في العالم. من هذا المنطلق جاءت أهم خطوط الاستراتيجية الجديدة مركزة علي: 1- إعادة الاهتمام بعنصر القوة الذاتية الأمريكية لتقوية " القدرات القومية " وتقوية البنية الأمريكية الداخلية، وتعزيز قدرات الاقتصاد الأمريكي. 2- توسيع اهتمام الإدارة الأمريكية بالعمل مع " الشركاء " لتعزيز الأمن القومي الأمريكي، علما بأن تعريف الشريك يشمل حاليا مساحة تمتد عبر كل دول العالم. وبناء علي ذلك، ارتكزت الاستراتيجية الجديدة علي الانطلاق من عنصر تفوق القوة الأمريكية ( عالميا ) في مختلف المجالات لإعادة بناء مصادر النفوذ الأمريكي في العالم. وبنص التقرير " إن الولاياتالمتحدة تملك أفضل قوة عمل في العالم، وبأفضل تعليم، وقطاع خاص يعزز التجديد، ولديها أفضل مواطنين وقطاعات الأعمال التي تتيح أفضل رعاية صحية، وتمكين للمنافسة في المجال الاقتصادي". ويركز التوجه الجديد للاستراتيجية الأمريكية علي "القيادة الأخلاقية" التي تمثلها أمريكا للعالم علي أساس "النموذج الأخلاقي" والقيم الأمريكية، وليس من خلال السعي لفرض النظام الأمريكي علي الشعوب الأخري. وبناء علي ذلك، تقوم عناصر الاستراتيجية الأمريكية علي أساس بناء القوة الاقتصادية، والانضباط الداخلي، واستعادة مكانة أمريكا في العالم، وتحسين خطاب السياسة الخارجية، وكبح جماح الإرهاب المحلي. مصالح أمريكا في العالم تقوم الاستراتيجية التي عرضها الرئيس اوباما علي تقييم دقيق للمصالح الأمريكية في الخارج، ومدي الحاجة إلي استخدام القوة، في ضوء تصاعد التهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي الأمريكي، ويجري تقييم هذه المصالح انطلاقا من الرؤية الأمريكية للعالم، كما تراه الولاياتالمتحدة. وبناء علي هذه الرؤية، تتابع الولاياتالمتحدة علاقاتها مع الصين، مع مراقبة تطورات بناء القوة العسكرية الصينية، وتواصل جهودها لكبح سياسات الدول الساعية للأسلحة النووية، كوريا الشمالية وإيران، أما عن استخدام القوة العسكرية، فيجري العمل علي صياغة مفهوم امريكي جديد يقوم علي الاستخدام الأكثر حكمة، والأقل مباشرة، مع استخدام القوة والنفوذ غير المباشرين. وترتكز الرؤية الأمريكيةالجديدة علي قاعدة متطورة للعمل الجماعي، وتقوية دور المؤسسات الدولية، وخدمة المصالح المشتركة لدي الأطراف المعنية في مجالات متعددة منها محاربة التطرف المتصل بالعنف، ووقف انتشار الأسلحة النووية، وتحقيق النمو الاقتصادي، والتعاون الدولي في مجال تغيرات المناخ. وفي هذا السياق يمكننا رصد توجهين رئيسيين في شأن سبل حماية المصالح الأمريكية في العالم: 1- النظر إلي تنظيم القاعدة علي أنه " العدو الرئيسي " الذي يهدد الأمن القومي الأمريكي، ومن ثمة تحدد الاستراتيجية الهدف بمحاربة التنظيم، وفروعه في أفغانستان، وباكستان، والصومال، واليمن، والسعي لتفكيك التنظيم، وإنهاء وجوده، ومتابعة عناصره في أي مكان، علما بأنه بناء علي معلومات أمريكية فإن القاعدة تخلت عن اسلوب التجنيد القديم، وتعتمد حاليا علي عناصر مشاة، ليس لها مظهر الارهابيين السابق. وبناء علي ذلك، سيجري توسيع العمليات الأمريكية الخاصة، والهجمات الاستباقية، والانتقامية، التي يقوم بها الجيش الأمريكي. وتؤكد صحيفة واشنطن بوست أن العمليات الأمريكية الخاصة تنتشر حاليا في 75 دولة في العالم، وقد طلب اوباما زيادة ميزانيتها لتصل إلي3. 6 مليار دولار لعام 2011. 2- استمرار ثوابت المنظور الأمريكي لما يطلق عليه " الشرق الأوسط الكبير "، في ضوء تأكيد الرئيس اوباما علي وجود مصالح أمريكية مهمة بهذه المنطقة. ويبدأ الجهد الأمريكي للحفاظ علي هذه المصالح بمهمة التعاون مع " الصديق الإسرائيلي "، والالتزام التام بأمن إسرائيل، ( وتسجل الاستراتيجية اعترافا واضحا بإسرائيل باعتبارها الدولة اليهودية ضمن الحديث عن سعي أمريكي لوجود دولتين اسرائيلية وفلسطينية، تعيشان جنبا إلي جنب في سلام )، بالإضافة إلي الحفاظ علي وحدة العراق وأمنه وتعزيز ديمقراطيته، وإعادة ادماجه في المنطقة، وإحداث تحولات في السياسة الإيرانية بعيدا عن السعي لامتلاك أسلحة نووية ودعمها للإرهاب، وتهديد جيرانها، وتحقيق حظر انتشار الأسلحة النووية، والتعاون في مجال مكافحة الارهاب، والوصول إلي مصادر الطاقة، وادماج منطقة الشرق الأوسط الكبير في الأسواق العالمية. وللحفاظ علي المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط الكبير، يجري توسيع أدوار دول الشرق الوسط وإسهاماتها في محاربة الارهاب، والتصدي لنشاط تنظيم القاعدة، مع التأكيد علي أن الولاياتالمتحدة ليست في حرب مع الإسلام، ولكنها تحارب المتشددين. ومن هنا يقوم العون الأمريكي لهذه الدول علي النحو التالي : 1- إمداد الحكومات المحلية بالأدوات اللازمة لإنهاء الأنشطة الإرهابية. 2- مساعدة دول الشرق الأوسط ماليا وسياسيا وتقوية الحكومات الضعيفة والحفاظ علي سيادة القانون. 3- العمل مع الزعماء الدينيين والسلطات المحلية لتحسين التعليم الديني، واعتبار المهمة معركة داخل الاسلام، من أجل اقناع الجيل الجديد بالتخلي عن الحرب الجهادية. الاستراتيجية الأمريكية.. مواطن القصور يؤكد بنجامين رودس كاتب خطابات الرئيس أوباما أن وثيقة الاستراتيجية الجديدة التي طرحها البيت الأبيض هي إعادة تجميع لخطابات الرئيس اوباما، والبيانات الرسمية، وهي بذلك تختلف جذريا عن "الوثيقة الأصلية" التي طرحتها وزارة الدفاع ( البنتاجون )، والتي تتضمن الاستراتيجية الحقيقية للأمن القومي الأمريكي. هذه الوثيقة تعتمد علي قاعدة رئيسية هي تعزيز القوة النووية الأمريكية بقوة ردع تقليدية مدمرة، قادرة علي ضرب أي هدف في العالم "خلال ساعة واحدة". كذلك تركز استراتيجية البنتاجون علي حتمية انتصار أمريكا في حروب العراق وأفغانستان، أو ما تسميها " حروب اليوم " كمقدمة للانتصار في حروب المستقبل. هذا الاختلاف بين وثيقة أوباما للأمن القومي الأمريكي، ووثيقة البنتاجون دفع دوائر أمريكية إلي وصف وثيقة أوباما بأنها تفتقر إلي المحتوي الجدي، وتغرق الأمريكيين في الوهم، وتتحدث عن كل ما هو مرغوب حديثا إعلاميا ومعادا وغير دقيق، كما أنها تجعل من الاقتصاد، والمناخ، والرعاية الصحية من مهمات الأمن القومي الأمريكي، ولأنها تشتمل علي كل شئ، فإنها لا تعني شيئا. ويقول الكاتب الأمريكي " كلايف كروك " إن البيت الأبيض لايحب استخدام عبارة " الحرب علي الارهاب "، ويري أوباما أن الارهاب تكتيك وليس عدوا، ولكن الإدارة الأمريكية تصر علي أنها في حالة حرب مع المتشددين، وتصيغ العبارات "حسب الحالة المزاجية" متظاهرة بالعلم. ويؤكد كروك علي أن استراتيجية أوباما في أفغانستان هي نفسها استراتيجية بوش، كما أن السماح بالضربات الجوية بالطائرات بدون طيار هي سياسة مشبوهة، وتفتقر للشرعية، ولم تزل الإدارة الأمريكية تحتفظ بمعتقل جوانتانامو. وبالجملة يؤكد كلايف كروك أن وثيقة اوباما خلطت بين ما يسمي بالاستراتيجية، والعمل الذي يتعين القيام به، وقد صمتت الاستراتيجية عن الأمور الحيوية في الأمن القومي، وفي مقدمتها تآكل النفوذ الأمريكي في العالم، بالرغم من قوة أمريكا العسكرية المخيفة. المصداقية الأمريكية صدرت وثيقة أوباما للأمن القومي الأمريكي في وقت تتهاوي فيه مصداقية الإدارة الأمريكية علي المستويين الداخلي، والخارجي. فالوثيقة، وهي تسعي حثيثا لتخفيف العداء بين أمريكا والعالم، ومساعدة الإدارة الأمريكية في أزمتها الاقتصادية، وقعت في عدة تناقضات، ليس فقط مع المصالح الأمريكية، وإنما أيضا مع السياسات الأمريكية الفعلية، وهو ما يمكن تبينه علي النحو التالي : 1- ليس مما يتفق مع الشراكة الدولية نص الوثيقة علي " احتفاظ أمريكا بحق العمل المنفرد " و" اللجوء إلي القوة " كملاذ أخير، كما يتعارض مع توجهات الوثيقة، السياسات الأمريكية الفعلية والتي تركز علي تحديث آلة الحرب الأمريكية، ونشرها في جميع أنحاء العالم ( 120 دولة )، ووصول الميزانية العسكرية الأمريكية إلي 708 مليار دولار، وهي الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية ، وإضافة قواعد عسكرية جديدة في كولومبيا والبحرين، ليستمر الاستنزاف العسكري للموارد الأمريكية بالرغم من أزمتها الطاحنة. 2- لم تغير وثيقة الأمن القومي الأمريكي شيئا يذكر من استراتيجية الوجود العسكري الأمريكي في افغانستان والعراق، اللهم إلا في اتجاه استمرار القوات الأمريكية في البلدين، وتوسيع الحرب في باكستان، مع الاستعانة ( بالآلة الإعلامية ) لترويج وتغطية النشاطات العسكرية الأمريكية، وتغيير اسم القوات الأمريكية في العراق إلي مسمي ( مجموعات من المدربين والمستشارين والخبراء)، تحت ادعاء جديد يطلق عليه " الفجر الجديد ". كما لم تغير الوثيقة الأمريكية من توجهات الولاياتالمتحدة تجاه القضية الفلسطينية، ولا العلاقات الأمريكية العربية، ولم تتغير السياسات الأمريكية في هذا الصدد عنما كانت عليه في ظل سياسات الإدارة الأمريكية للرئيس السابق جورج بوش. 3- تزامن مع أجواء طرح الاستراتيجية الأمريكية توقيع عدد كبير من المثقفين والفنانين واليساريين الأمريكيين بياناً في الصحف الأمريكية يتهمون فيه الرئيس أوباما بالتواطؤ في جرائم حرب وانتهاكات حقوق الإنسان، ومواصلة سياسات بوش في العراق وأفغانستان، وإعطاء الضوء الأخضر لتصفية مواطنين أمريكيين مشتبه بهم استنادا إلي معلومات استخباراتية وهو ما لم يفعله بوش، ومن ضمن الموقعين الفيلسوف ناعوم تشومسكي، والممثل جيمس كرومويل.