في نهاية شهر مايو الماضي, أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن رؤية بلاده وإدارته لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي, والتي يأتي إعلانها متأخرا عن الوقت الذي جري التقليد السياسي الأمريكي. إعلانه فيه, ألا وهو منتصف العام الأول من الفترة الرئاسية الجديدة..وتعددت التعليقات حول مضمون الاستراتيجية الجديدة, وشاركنا من ضمن من شاركوا في التعليق عليها وبخاصة حول ما جاء فيها عن الشرق الأوسط, وكان رأينا أنه لا جديد فيها بل إنه غير مشجع وتقليدي.. بيد أن الوثيقة, من جانب آخر, لم تحظ بالاهتمام الكافي فيما يتعلق بأمور أخري تعبر عن مواقف ذات طابع اجتماعي لم تكن محل اهتمام من قبل..لذا ربما يكون من المفيد أن نلقي الضوء علي زاوية تتعلق بإصدار استراتيجيات الأمن القومي لا نقترب منها كثيرا برغم أهميتها..تنطلق هذه الزاوية من رؤية تقول: إن هذه الوثائق بقدر ما تلخص رؤية أمريكا في التعامل مع العالم في لحظة تاريخية معينة, بقدر ما تعبر عن التفاعلات الداخلية للولايات المتحدةالأمريكية.. فهذه الاستراتيجيات فرصة أن نطل من خلالها علي الداخل الأمريكي, فما تتضمنه هو انعكاس للداخل بتفاعلاته..وللتدليل علي ما سبق نعرض في عجالة لخلفية تاريخية لمسيرة هذه الاستراتيجيات والكيفية التي كانت تصدر بها ولماذا يعد هاري ترومان نقطة فارقة في تاريخ هذه النوعية من الوثائق؟.. يفرق الخبراء في الشأن الأمريكي بين المسار التاريخي الأمريكي قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها.. فمنذ الحرب الأهلية الأمريكية في الثلث الأخير من القرن ال18 كانت الاستراتيجيات الأمنية الأمريكية عسكرية بالأساس.. وكانت هذه الاستراتيجيات بحسب فريد زكريا ( باحث سياسي أمريكي من أصل هندي)' لا تصنعها الأمة ككل وإنما يصنعها أصحاب المصالح' في خدمة ما أطلقنا عليه' التوسع الأمريكي من الداخل إلي الخارج'(راجع كتابنا الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة),..وكان الرئيس الأمريكي مدعوما بأصحاب المصالح يطرح رؤية هي أقرب إلي الاستراتيجية العسكرية المباشرة أكثر منها استراتيجية شاملة للأمن القومي..في ضوء ذلك عرفنا مبدأ مونرو(1823)..كما عرفنا مبدأ العصا الغليظة الذي وضعه تيودور روزفلت(مطلع القرن العشرين).. بيد أن الأزمة الاقتصادية العظمي في1929, شهدت تحولا في الداخل الأمريكي تجلي في حضور فاعل للشرائح الاجتماعية الوسطي أدي إلي خلخلة احتكار أصحاب المصالح لتشكيل السياسات القومية العليا لأمريكا..حيث بدأت هذه الشرائح الاجتماعية الصاعدة تراجع السلطة وتعلن رأيها في كثير من قضايا الداخل الأمريكي, كما شرعت في نقد استراتيجيات أمريكا الخارجية..كما أخذت تناضل من أجل أن تنافس تحالف' المجمع الصناعي العسكري التكنولوجي' في بلورة الاستراتيجيات والسياسات..وهو الأمر الذي دفع بالتحالف المذكور إلي العمل علي قطع الطريق علي القوي الاجتماعية البازغة في أن تنافسها..وذلك بإصدار' قانون الأمن القومي الأمريكي' سنة1947, وذلك في عهد الرئيس هاري ترومان, حيث تم تقنين إلزام الرئيس الأمريكي بإعلان رؤيته الاستراتيجية للأمن القومي. وبالفعل تم إصدار قانون الأمن القومي عن الكونجرس الأمريكي بهدف ضمان توفير' برنامج مستقبلي شامل لأمن الولاياتالمتحدةالأمريكية'(بحسب ما جاء في نص القانون نقلا عن موسوعة الولاياتالمتحدةالأمريكية للأمن القومي الصادرة في2006 في1000 صفحة), كذلك' دعم التكامل في السياسات والخطوات العملية التي تترتب عليها..'. وحول هذا الأمر, يكشف لنا كتاب جديد صدر في نهاية2008 بعنوان' تأسيس دولة الأمن القومي', يؤرخ للظروف والملابسات التي واكبت إصدار قانون الأمن القومي الأمريكي, ووصفه للقانون بأنه' القانون الذي غير أمريكا'..وذلك لما يلي: ساوي القانون بين زمن السلم ووقت الحرب, ويترتب علي ذلك أن تظل أمريكا في حالة تعبئة دائمة..ومن ثم تطور مفهوم الأمن من مجرد مفهوم عسكري محض, مرتبط بتوسع عسكري أو حماية مناطق أو..الخ,كما كان الحال قبل الحرب العالمية الثانية,إلي رؤية شاملة للأمن القومي ووضعها في يد الإدارة الأمريكية ومن تمثل من أصحاب المصالح.. وهو ما يعني عمليا تطويق القوي البازغة التي بدأت تشارك أصحاب المصالح في مناقشة استراتيجيات الأمن القومي..وبالطبع ساهم في دعم هذا الاتجاه تشكل نظام عالمي جديد يقوم علي صراع ثنائي بين الرأسمالية والشيوعية..لذا لم تكن مصادفة أن يواكب هذا القانون الحملة المسعورة التي عرفت بالمكارثية في الداخل الأمريكي حيث الاتهام بالشيوعية حاضر لكل من يطرح رأيا مغايرا لأصحاب المصالح.. ومنذ مطلع الخمسينيات ارتبط إصدار أو تأخر أو عدم إصدار استراتيجية الأمن القومي بطبيعة التفاعلات الداخلية بين القوي المختلفة, سواء بين جماعات المصالح والحزبين الكبيرين وبين القوي الاجتماعية التي تتحرك من خارج الأطر سالفة الذكر.. ولم يفلح التطويق الذي حاوله ترومان ومن خلفه أصحاب المصالح في منع القوي الاجتماعية من التأثير بدرجة أو أخري علي صياغة هذه الاستراتيجيات.. وهو ما كشفت عنه كثير من الدراسات الحديثة ونحتاج إلي أن نتأمله.. والخلاصة أنه بقدر ما تتاح فرصة للقوي الاجتماعية أن تعبر عن نفسها كما حدث من خلال حركة الحقوق المدنية في الستينيات تخفت كثيرا حدة هذه الوثائق..وبقدر ما تهيمن القوي المحافظة يعلو سقف الحدة( راجع كلا من وثيقتي بوش2002 و2006).. يراجع في هذا المقام كتاب'تحدي السلطة'ChallengingAuthority الصادر في.2008 في هذا السياق, تأخر صدور الاستراتيجية الحالية لفترة تقترب من16 شهرا..وجاءت لتعبر أولا عن تحول جذري عما كانت تطرحه الوثيقتان السابقتان, وذلك بإنهاء حالة الحرب علي الإرهاب..والتحرر من الرؤية البوشية/ الإمبراطورية الصدامية بمفرداتها المتعالية والمتعجرفة..وتطرح رؤية أكثر تواضعا وإدراكا للتحولات الكونية وللقدرات الذاتية المطلوب تقويتها, وفي نفس الوقت تؤكد الشراكة الدولية لا الانفراد الأمريكي, والجماعية بين القوي الدولية المختلفة في تناول القضايا.. وتعيد الاعتبار للنظام الدولي والدور الذي يجب أن يقوم به وللمؤسسات الدولية..والأهم هو تبني خطاب اجتماعي غير مألوف في هذه الوثائق من نوعية: تأكيد النمو المتوازن والدائم والعناية بالأبعاد الثقافية والتعليمية والتكنولوجية والإبداعية والبيئية, وتسريع التنمية المستدامة وتحقيق الكرامة بتلبية الاحتياجات الأساسية..كذلك فك الارتباط بين فكرة نشر الديمقراطية واقتصاد السوق.. إن الاستراتيجية الجديدة التي صدرت بعد معاناة, أظنها تعكس محاولة توافقية بين ما يمثله أوباما من تحولات نوعية: جيلية وإثنية واجتماعية في الداخل الأمريكي وبين النخبة التقليدية من أصحاب المصالح..ولعل ما يحدث في أمريكا من حراك شعبي تمثله كل من حركتي:حفل' الشاي' اليمينية وحفل' القهوة' الليبرالية( اليسارية تجاوزا),يؤكد الخروج علي التطويق الذي أراده ترومان وأصحاب المصالح للناس,ورغبة الناس العارمة في أن تعبر عن نفسها خارج جماعات المصالح التقليدية والحزبين الكبيرين..وهو ما يحتاج إلي مزيد من الاقتراب والفهم.