ظل مفتونًا بالسير والحكايات الشعبية، فهو الراوى الشعبى الذى يدور بحكاياته بين الناس ليقدمها، أبطاله يكتسبون بطولاتهم من مواجهتهم كل عناصر الفناء، ليقدم طوال حياته تاريخًا موازيًا ثريًا لعالم مصر الاجتماعى. تمر اليوم الذكرى 76 لميلاد الروائي والكاتب الراحل خيري شلبي، الذي أطلق عليه نقاده رائد الفانتازيا التاريخية في الرواية العربية المعاصرة، فكان من أوائل من كتبوا الواقعية السحرية. فى أدبه الروائى تتشخص المادة وتتحول إلى كائنات حية تعيش وتخضع لتغيرات وتؤثر وتتأثر، وتتحدث الأطيار والأشجار والحيوانات والحشرات وكل مايدب على الأرض، حيث يصل الواقع إلى مستوى الأسطورة، وتنزل الأسطورة إلى مستوى الواقع، ولكن القارئ يصدق ما يقرأ ويتفاعل معه. في سبعينيات القرن الماضى حقق «شلبي» نحو 200 مسرحية مطبوعة في القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين، ولم يكن أيا من هذه المسرحيات قد ورد ذكرها في أي من الدراسات التاريخية والنقدية المعنية بالمسرح، ومما عثر عليه نص مسرحي من تأليف الزعيم مصطفى كامل بعنوان «فتح الأندلس» وقام بتحقيقه ونشره في كتاب مستقل، ونص آخر كتبه الشيخ أمين الخولي لفرقة عكاشة بعنوان «الراهب». كما اكتشف قرار النيابة في كتاب الشعر الجاهلي، إذ عثر عليه في إحدى مكتبات درب الجماميز المتخصصة في الكتب القديمة، ولم يكن كتابا بل كراسة محدودة الورق مهترئة ولكنها واضحة وعليها توقيع النائب العام محمد نور الذي حقق مع طه حسين في القضية، وحقق «شلبي» هذه الوثيقة وأصدرها في كتاب «محاكمة طه حسين». في روايته «موال البيات والنوم» يصف ضياعه فى المدينة قائلا: «كان الضجيج قد تلاشى تماما من الوجود، لعلى أنا نفسى قد تلاشيت، تحولت إلى خاطرة محلقة تحت مظلة كبيرة من السحب الداكنة الغامضة.. كخيط من الدخان ينسلخ من الكتل الثقيلة ويصل موصولاً بها إلى ما لا نهاية. ها هى ذى تلتقطنى من الجانب الآخر، فيحتوينى حضن سحابة هابطة من علٍ». وفى مستهل روايته «الوتد» يقول: «كثيرا ما تمنى أبناء الدار موت (الحاجة تعلبة) مع ذلك ما تكاد تلم بها وعكة صغيرة حتى تنقلب الدار كلها كأنما القيامة على وشك أن تقوم. يجىء حلاق الصحة وينصرف عددا من المرات، ويحضر القريب والبعيد من الأقارب والأصهار والمعارف، حتى لتصير الحارة كلها -وهى كلها بيوتنا- زريبة كبيرة تضيق بركائبهم التى يبدو عليها الحزن هى الأخرى، إذ تقف مدلاة الآذان عازفة عن الطعام والنهيق. وتتحول الدار إلى مولد صغير..». أصدر أكثر من 70 كتابا بين روايات وقصص قصيرة، وكان كتابه رحلات الطرشجى الحلوجى إبداعا يجمع الماضى بالحاضر، وكانت رواياته ساخنة تشعر مع كلماتها أنك تعيش الحدث، كانت روايته «وكالة عطية» مثالا لهذا، وهو ابن الريف المصرى، ومن يريد أن يتعرف عليه يمكنه معرفة ذلك بسهولة من أعماله، ويمكن معرفة العالم التحتى للقاهرة والمدن من أعمال مثل «الشطار، وموال البيات، والنوم، وأحلام عم أحمد السماك، وزهرة الخشخاش، وصهاريج اللؤلؤ» وغيرها، رحم الله خير شلبى حكّاء الشعب المصرى بلا منازع. حصل «شلبي» على العديد من الجوائز المصرية والعربية ورشح لجوائز دولية نال بعضها، ومن هذه الجوائز جائزة الدولة التشجيعية ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى وجائزة أفضل رواية عربية عن «وكالة عطية»، والجائزة الأولى لاتحاد الكتاب للتفوق وجائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكيةبالقاهرة عن «وكالة عطية» وجائزة أفضل كتاب عربى من معرض القاهرة للكتاب عن رواية «صهاريج اللؤلؤ» وجائزة الدولة التقديرية. نتذكر عندما قال: «قرية الفلاح المصري التي أكتب عنها مختلفة عن تلك التي قدمها يوسف إدريس والشرقاوي، هما قدما القرية المصرية من وجهة نظر بورجوازية أما أنا فأكتب من مكان آخر، أقدم قرية القاع، أنا مفتون بشخوص يوسف إدريس، ومن شدة افتناني بشخوصه وأحداثه ونسيجه الفني أراني قد انجذبت للتفكير في الخلفية الاجتماعية التي ألهمته هذه الشخوص وهذه المنسوجات الفنية الدرامية بمعني أن انبهاري بالفن يقودني إلي البحث في المادة التي صنع منها هذا الفن العجيب». كان يعتبر "يحيى حقي" والده الروحي، فيقول: (حقي) من أكثر الرواد تأثيراً فيّ معرفياً ولغوياً وأسلوباً وأيضاً من خلال الروح المصرية الحقيقية التي أنعشها في أبناء جيلي.. وقال عن إحسان عبد القدوس: من الجائز أن أصور عوالم إحسان عبد القدوس نفسها لكن بطريقة «فلاحين»، أقصد بطبيعة الفلاحين الوضوح والاحتشام في التعبير وتلك التقاليد الأخلاقية تظهر في الكتابة. اختار لسيرته الذاتية -التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب– قبل وفاته عنوانا يلخص جوهر كتاباته وهو «أُنس الحبايب»، عنوان يدل علي الألفة والقرب من الحياة والناس المنسيين والمهمشين الذين عاصرهم وعايشهم طوال رحلة الحياة. خيري شلبي قال عن نفسه ذات يوم «ما أنا إلا حكواتي سريح، أشتري الحكايات من منابتها، أجوب وراءها الأسواق والشوارع والحارات والمنعطفات، ناهيك عن القري والعزب والكفور، مهما كلفني السعي وراءها من بذل ومشقة وعناء، غير أنني لست أبيعها مطلقا، إنما أنا مولع بأسماء أصحابها وبأصواتهم، ليس افتتانا بهذه الألوان المختلفة من طرائق السرد الشعبي الساحر في تلقائيته غير المحتاجة إلي وسيط من لغة خارجية، وإنما إلى ذلك لأنهم أخبر مني بمكامن نفوسهم ومواطن أوجاعهم».