يمشي متنقلا في الشوارع والأزقة والحارات ، يوزع ابتسامته المضيئة علي سكانها ، يتعشم بعلاقة ود ومحبة بينه وبينهم ،يسقيهم مما تشربه ، فيذهب إليهم حاملا جهازه الصغير الذي يضم صورهم وتاريخهم العريق. " انظري سيدتي هذه صورة لمقام (أم الغلام) و"مدد يا حسين" والذى به مقام السيدة فاطمة بنت مولانا الحسن بن سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ". يذهب إلي مكان آخر وفي يده أوراق تفوح منها رائحة صناع التاريخ ، يحكي لساكنيه عن آثاره العتيقة ، يتركهم محملين بالفخر والإعتزاز والحسرة أيضا علي تاريخهم المنسي. تشى نظرات عيناه الملتمعتان بالانبهار بذكاء متوقد ساعده للوصول على مدى سنوات للاغتراف ممايهوى وتمكن من أسر قلبه .. عن حالة انسانية نادرة أتحدث .. وأمامه نقف الآن .. إنه "بدرو الإسبانى" ، الذي جاء من البلاد البعيدة متيما بحبك أنت وبحب مصر، وحين تقابله لأول مرة ، لا يمنحك الترحيب التقليدي ، بل سرعان ما يفتح جهازه العتيق الذي تلون بلون ما يحمله من صور للآثار الفرعونية والإسلامية ، ويظل يقلب في صوره التي التقطها بإحساس العاشق واهتمام الباحث ، فقط يريد أن يوصل لك رسالة محتواها " أنت أيها المصري تمتلك آثارا عظيمة تعكس تاريخك العريق ولكنها تحتاج منك أن تنفض عنها أتربة الزمن لتعود بهية متألقة مثلما كانت في الماضي البعيد. هكذا يحييك بدرو ثم يحكي لك حكايته في رحاب الحسين والذى نال السعادة الأبدية لسكنه بالقرب منه، ويسرد ماجادت به ووشوشته أحجار، وزخارف ،وبيوت حارات الدرب الأحمر وقصر الشوق وزقاق المدق والسكرية وبين القصرين ، ليس هذا فحسب ، بل يحدثك أيضا عن رحلاته التي قام بها لاستكشاف الآثار الفرعونية. عشقه لك ولتاريخك ، يجعلك حتما شغوفا بالتعرف عليه ، هاهو يسحب نفسا عميقا ويبتسم وهو يحكى قائلا : " جئت إلي مصر في سنة 1985 لكي أعمل مدرسا للغة الإسبانية في إحدي المدارس التابعة لشركة إسبانية أقامت مشروعات في مصر،منها محطة كهرباء شبرا الخيمة ،ومستشفي بالمنصورة ، أتذكر هذا اليوم جيدا حين طلب مني أن أسافر إلي مصر ، فعندما كان يذكر اسم مصر كنت أتخيل أمامي الأهرامات، لقد كنت متشوقا لرؤيتها ، بدأت التدريس ونظمت العديد من الرحلات المدرسية لكثير من الأماكن الأثرية الفرعونية في القاهرة والأقصر وأسوان وبدأت التعمق في دراسة هذه الآثار وفي كل مرة أذهب فيها إلي هذه الأماكن ، أشعر بالإرتواء بعد وقت طويل من العطش ، حقا لقد ارتويت من أصالة وعظمة كل حجر رأيته ، وبعد فترة ، عدت مرة أخري إلي إسبانيا ولكنني لم أملك الإبتعاد عن مصر ،ولم أملك أيضا رفاهية انتظار شركة أخري تأتي لتنفذ مشاريع في مصر، ثم تحتاج لمدرس للغة الإسبانية ، وقررت العودة ، جئت بنفسي إلي مصر في رحلة لم تنته بعد ، وعملت بالتدريس في الكثير من المدارس الإسبانية ، وفي تلك الفترة أقمت بمنطقة الحسين الساحرة وهنا كانت بداية اهتمامي بالآثار الإسلامية" ويتابع بدرو " كان يلفت انتباهي الترقيم الموجود علي الأماكن الأثرية ، فمثلا أري رقم 41 ، معني هذا أن هناك 40 أثرا لا أعرفهم ، في رحلة أخري أري أرقام جديدة ، وهكذا....... ، وهذا كان بداية الخيط الذي انطلقت منه لتجميع (ال 800 أثر) ، ولكني للأسف اكتشفت أن هناك 50 أثرا مفقودين ، فعندما قمت بجولة بين كل الأماكن المختصة بالآثار مثل هيئة الآثار بالعباسية ووزارة الآثار بالزمالك ودار المحفوظات بالقلعة بالإضافة الي مراكز التفتيش داخل كل منطقة أخبروني بأنه تم شطب هذه الآثار نتيجة لتدهور حالتها أو نتيجة لإنشاء كوبري أو مد شوارع جديدة ، وهذا شيء محزن". ينظر "بدرو" إلى أعلى وهويتحسر علي ما أصاب الآثار المصرية وهو يقول: " حال الآثار المصرية يبعث علي البكاء ، أراها حزينة اليوم ،بعدأن تركها المصريين محاطة بأكوام القمامة بدلا من الورود ، فعندما ذهبت إلي المطرية كدت أبكي عندما رأيت الآثار لا أحد يقدرها ،والجميع يعطي لها ظهره ، ولكنها مازالت محتفظه بنقوشها الفرعونية لتقف في وجه الزمان بإباء وكبرياء وتقول " هآنذا لا شيء يمحيني" ، كما شاهدت الأعشاب تحيطها وكأنها نبتت لتحميها بعد أن تركها أصحابها ، أشعر بالحسرة أيضا عندما أري أثر مشهد آل طباطبا متهالكا ، ومتآكلا تحيطه بركة من المياه المليئة بالقمامة". أوشك "بدرو" علي الإنتهاء من كتبه ومؤلفاته عن الآثار الإسلامية والقبطية ، و يسجلها باللغتين الإسبانية والعربية التي تعلمها من دون الإلتحاق بأي مؤسسة تعليمية ، حيث أتقنها من خلال جولاته ورحلاته في شوارع وحارات القاهرة ، وبدأ "بدرو" توثيق رحلاته في كتبه بمنطقة الدرب الأحمر التي عاش بها أيضا عدة سنوات ويقول أنها تحتوي علي مائة أثر نادر وعتيق ولايوجد له شبيه فى العالم . لا يتوقف بدرو عن الإندهاش فكل ما يراه يثير انبهاره ، ويزيد من إصراره على المسير محاولا الإرتواء من النهرالعذب والإختلاط مع الأرواح الطاهرة ،الساعية إليه أيضا، فبعد أن انتهينا من رحلتنا في رحاب سيدنا الحسين عاد بنا مرة أخري ..وارتفع صوته دافئا وهو يصرخ بحب .. "انظروا هذا مقام إمام العارفين ، الشيخ محمد أمين البغدادي ، في هذا المكان أشعر بالسعادة لا أدري من أين تأتي لكنها تلفنى وأحس بها" .