بيانات التضخم الأمريكية تهبط بمؤشرات البورصات الأوروبية    دعم جميع إجراءات مصر والسودان لحماية أمنهما المائى    تفاصيل عقد فيرناندو مونزو الجديد مع الأهلي    جدول مواعيد القطارات المخصصة لأهالي النوبة خلال عيد الأضحى المبارك    وفاة المطرب السوري وضاح إسماعيل    قرار حكومى باعتبار مشروع نزع ملكية عقارين بشارع السبتية من أعمال المنفعة العامة    الفئة من 401 إلى 500.. تصنيف تايمز العالمي يضم «جنوب الوادي» لقائمة الجامعات الشابة    حريق في طائرة أمريكية يجبر المسافرين على الإخلاء (فيديو)    فيديو| وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يعزف الجيتار في ملهى ليلي ب أوكرانيا    وزيرا التعليم والأوقاف يصلان مسجد السيدة نفيسة لتشييع جثمان وزير النقل السابق - صور    تقارير: تياجو موتا يقترب من خلافة أليجري في يوفنتوس    فانتازي يلا كورة.. الثلاثي الذهبي قبل الجولة الأخيرة في بريميرليج    سكاي: فونيسكا الخيار الأول لخلافة بيولي في ميلان    رئيس جامعة الأقصر: منشآت جميع الكليات جاهزة لاستقبال امتحانات نهاية العام    مد فترة استلام الطلبات لوظائف القطار الكهربائي الخفيف حتى 23- 5- 2024    نقابة المهن الموسيقية تنعي زوجة المطرب أحمد عدوية    «الصحة» توجه إرشادات لتجنب الإصابة بالعدوى خلال فترة الحج.. تعرف عليها    لجنة مركزية لمعاينة مسطح فضاء لإنهاء إجراءات بناء فرع جامعة الأزهر الجديد في برج العرب    «كارثة متوقعة خلال أيام».. العالم الهولندي يحذر من زلازل بقوة 8 درجات قبل نهاية مايو    نائب محافظ الجيزة يتابع ميدانيا مشروعات الرصف وتركيب بلاط الإنترلوك بمدينة العياط    إسباني محب للإنذارات.. من هو حكم مباراة النصر والهلال في الدوري السعودي؟    "الصحة" تنظم فاعلية للاحتفال باليوم العالمي لمرض التصلب المتعدد .. صور    كيف تؤثر موجات الطقس الحارة على الصحة النفسية والبدنية للفرد؟    "هُتك عرضه".. آخر تطورات واقعة تهديد طفل بمقطع فيديو في الشرقية    السفير المصري بليبيا: معرض طرابلس الدولي منصة هامة لتسويق المنتجات المصرية    تفاصيل اجتماع وزيرا الرياضة و التخطيط لتقييم العروض المتُقدمة لإدارة مدينة مصر الدولية للألعاب الأولمبية    التموين: وصول 4 طائرات تحمل خمسة آلاف خيمة إلى أهالي قطاع غزة    جامعة الفيوم تنظم ندوة عن بث روح الانتماء في الطلاب    15 يوما إجازة رسمية بأجر في شهر يونيو المقبل 2024.. (10 فئات محرومة منها)    وكيل الصحة بالقليوبية يتابع سير العمل بمستشفى القناطر الخيرية العام    نجم الأهلي مهدد بالاستبعاد من منتخب مصر (تعرف على السبب)    إطلاق مبادرة لا للإدمان في أحياء الجيزة    طريقة عمل طاجن العكاوي بالبطاطس    فنانات إسبانيات يشاركن في الدورة الثانية من ملتقى «تمكين المرأة بالفن» في القاهرة    محاولة اغتيال رئيس وزراء سلوفاكيا.. ماذا قال الجاني عن دوافعه؟ (فيديو)    الجمعة .. انطلاق نصف نهائي بطولة العالم للإسكواش بمصر    بمشاركة مصر والسعودية.. 5 صور من التدريب البحري المشترك (الموج الأحمر- 7)    تعرف على مواعيد عرض فيلم "شرق 12" في مهرجان كان السينمائي    هل يجوز الجمع بين الأضحية والعقيقة بنية واحدة؟.. الإفتاء توضح    ببرنامج "نُوَفّي".. مناقشات بين البنك الأوروبي ووزارة التعاون لدعم آفاق الاستثمار الخاص    أمير عيد يؤجل انتحاره لإنقاذ جاره في «دواعي السفر»    بدء التعاقد على الوصلات المنزلية لمشروع صرف صحي «الكولا» بسوهاج    نقابة العاملين الأكاديميين بجامعة كاليفورنيا تجيز إضرابا ردا على قمع احتجاجات غزة    قرار قضائي جديد بشأن سائق أوبر المتهم بالاعتداء على سيدة التجمع    "العربة" عرض مسرحي لفرقة القنطرة شرق بالإسماعيلية    توقيع بروتوكول تجديد التعاون بين جامعة بنها وجامعة ووهان الصينية    «الداخلية»: ضبط 13 ألف قضية سرقة تيار كهربائي خلال 24 ساعة    دون إصابات.. تفاصيل نشوب حريق داخل شقة في العجوزة    الأحد.. عمر الشناوي ضيف عمرو الليثي في "واحد من الناس"    الطاهري يكشف تفاصيل قمة البحرين: بدء الجلسة الرئيسية في الواحدة والنصف ظهرا    أعطيت أمي هدية ثمينة هل تحق لي بعد وفاتها؟.. أمين الفتوى يوضح    يسرا رفيقة عادل إمام في مشوار الإبداع: بتباهى بالزعيم وسعيدة إني جزء من مسيرته    نتيجة الصف الرابع الابتدائي الترم الثاني 2024 عبر بوابة التعليم الأساسي (الموعد والرابط المباشر)    «الأمن الاقتصادي»: ضبط 13166 قضية سرقة تيار كهربائي ومخالفة لشروط التعاقد    مد فترة التقديم لوظائف القطار الكهربائي الخفيف.. اعرف آخر موعد    حلم ليلة صيف.. بكرة هاييجي أحلى مهما كانت وحلة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 16-5-2024    نجمة أراب أيدول برواس حسين تُعلن إصابتها بالسرطان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.صفوت حاتم: خطاب الثورة..وخطاب الدولة..وخطاب الجبهة
نشر في البديل يوم 21 - 04 - 2013

"يا صديقي: ان النظرية رمادية اللون.. لكن شجرة الحياة دائمة الإخضرار" (لينين ..موضوعات نيسان(
يعلمنا التاريخ..أنه ما من ثورة كانت مبرأة أو منزهة من الأخطاء والخطايا والتراجعات والانكسارات ..فالثورة المثالية هي محض اختراع في خيال الثوريين المراهقين والعصابيين.
فالثورة..كالحرب .. صراع دائم بين قوى وطبقات ومؤسسات تحشد كل منها طاقاتها المادية والمعنوية للفوز والنصر في المعركة.
ويتوقف النجاح والخسارة على عوامل متعددة يمليها ميزان القوى بين الفئات والطبقات المتصارعة .ومدى حضورها وتأثيرها في الشارع السياسي.
ويكاد يكون قانوناً عاماً أن تسود فترة من الإرتباك والارباك في صفوف المعسكرات المتصارعة في الفترات الأولى لاندلاع الثورات.. فرغم ما قد يبدو في الفترات الأولى من نجاحات ثورية مشجعة وواعدة ..فإنها قد تخفي في ذات الوقت ما تبذله القوى المعادية للثورة من تدابير لاستعادة زمام المبادرة وهزيمة الثورة.
وحتى لا يكون كلامي عاما ومجرداً..أكتفي بذكر ظاهرة تكاد تكون مكررة في كل الثورات ..وهي ظاهرة شيوع خطاب ثوري متطرف في مفرداته وألفاظه داخل النخب السياسية كلها ..بما فيها تلك التي كانت أسيرة للنظام القديم أو متعاونة معه.. وهي فئات ترى أن النجاة بنفسها واستعادة توازنها لا يكون إلا برفع الشعارات الثورية الجديدة والإلتحاق بصفوفها... وهو أمر يثير قدراً من الارتباك والإرباك في صفوف الثورة. ولعل التحاق معظم النخب الإعلامية التي كانت تدعم نظام مبارك القديم، هي إحدى تجليات هذه الظاهرة المتكررة.. ولكنها الأقل خطراً على الثورة.. في مراحلها الأولى على الأقل.
الخطر الثاني: هو احتواء معسكر الثورة على فئات متعددة تتنوع بين فئات الإصلاحيين وفئات الراديكاليين..يجمعهم في لحظة محددة العداء للنظام القديم وكراهيته والرغبة في التخلص منه. وتنوع البشر بين رغبة الاصلاح التدريجي أو التغيير الراديكالي يفرض قدراً كبيراً من الارتباك والتشوش في اللحظات التالية لسقوط النظام. فهناك من يقف عند حدود اصلاحات محدودة هنا وهناك..وهناك من يرى ضرورة لهدم النظام القديم وبناء نظام جديد. ولكن هذا الصراع الخفي أو العلني..سيفرض بدوره قدراً من التشوش والارتباك على المشهد الثوري. وإذا أخذنا نموذجاً مدرسياً لذلك فسنجد أن جبهة الانقاذ في مصر ضمت بعد فترة من التشتت وضياع البوصلة ..فئات وشخصيات وأحزاب تتنوع بشكل مذهل بين رغبات إصلاحية سطحية في جهة، وبين رغبات راديكالية .. وهي رغبات تتنوع في درجاتها من الجدية حتى درجات متطرفة من الغوغائية وانعدام حس المسئولية الوطنية في الجهة الأخرى.
الخطر الثالث: هو احتواء معسكر الراديكاليين والثوريين على فئات كل محصولها من الفكر السياسي والخبرة العملية هو الشعارات الثورية المتطرفة والزاعقة. وهي تشكل خطراً على مسار العمل الثوري ..فهي بشعاراتها الزاعقة تمارس الإرهاب الفكري على الآخرين وتعطي لنفسها حق منح صكوك الثورة أو سحبها كما تشاء. وكثيراً ما كشفت الأدبيات الثورية التاريخية عن أدوار مشبوهة لهذه الفئات المتطرفة كانت تصب في مجملها في هدم وتخريب الثورة وتشويهها لدى الجمهور. بكل الأحوال يؤدي جهد هؤلاء الى تشويش المشهد وإنهاك الجمهور ..وعدم تحقيق نجاحات عملية ..اللهم إلا على مستوى الشعار والفانتازيا الثورية!!
الخطر الرابع: أن حدوث ثورات شعبية في بلدان مهمة في الوطن العربي هو في حد ذاته إعلان بالخروج والثورة على التبعية للقوى الاستعمارية المهيمنة على المنطقة.. ومن الطبيعي أن تبذل هذه القوى كل ما في وسعها من امكانيات مادية واستخباراتية لتخريب وإعطاب أي جهد ثوري في منطقتنا العربية ..وذلك طبيعي لأنهم يخدمون مصالحهم ويريدون الحفاظ عليها. والاهتمام بالدور الخارجي في مسار ومصير الثورات العربية لم يتم الالتفات له منذ اللحظة الأولى على الرغم من خطورته.
وما أقصده بالبعد الخارجي ، هو حديث بعيد تماما عن بعد "المؤامرة" الذي يحلو للكثيرين التوغل فيه. فلقد عانت معظم الثورات التاريخية من تكالب القوى الخارجية على الثورة بغرض اجهاضها مبكرا ..وصلت أحياناً إلى حد التدخل بالجيوش الخارجية .وذلك طبيعي فالثورات الناجحة تفتح شهية الشعوب الخاملة على استلهام نموذج النجاح الثوري.
مؤامرة السلطة:
غاية أي ثورة هي الاستيلاء على السلطة السياسية.وتعبير الاستيلاء على السلطة هو المعادل الموضوعي لتعبير اخضاع أدوات القمع السياسي لصالح النظام الجديد.. وهي تحديدا جهاز البوليس ومؤسسة الجيش. ويتم التعبير عن هذا الصراع في الأدبيات السياسية بتعبير "مؤامرة السلطة".. قد يبدو التعبير غريبا للوهلة الأولى..أو منفراً..لكنه التعبير الذي يعبر عن حجم الصراع والتدابير العلنية والخفية التي يتخذها كل طرف من أجل الاستيلاء على السلطة السياسية من خلال السيطرة على أدواتها القمعية ..البوليس والجيش تمهيدا لفرض سيطرته على جهاز الدولة.
ولابد من الاعتراف دون خجل أن الإخوان المسلمين تمتعوا ..من خلال ما لدينا من معلومات على قدرات تكتيكية واسعة للمناورة في الداخل والخارج بغرض اخضاع السلطة السياسية من خلال "احتواء" مؤسستي القمع الجيش والبوليس ..فضلا عن هامش مناورة واسع مع القوى الخارجية لضمان تأييدها.
بالمقابل وقعت القوى الراديكالية في جملة من الأخطاء التكتيكية القاتلة تبدأ بخطأ الانسحاب السريع من الميادين قبل تحقق من انحياز السلطة الجديدة للثورة ..ولا تنتهي بخطأ ترك القضاء وحيداً في معركته مع السلطة الإخوانية ..وحصار المحكمة الدستورية الذي اعتبره من أهم التكتيكات الناجحة للإخوان ..وعلامة فارقة على عدم قدرة المعارضة على مواجهة حوادث ..قد تبدو غير خطيرة في زمنها ...لكنها تحفر أخاديد عميقة في صفحة التاريخ
أتذكر الآن في هذه اللحظة شعارات أطلقتها المعارضة في مناسبات متعددة ..مثل شعار المجلس الرئاسي الذي يجمع كل المرشحين الخاسرين للرئاسة ...أو شعار جمعية تأسيسية موازية ..أو برلمان مواز ..لا أنظر لها الآن ..إلا من قبيل الفانتازيا السياسية ..ولم يكن غريبا أن ينساها أصحابها وأن لا يعودوا إليها على الرغم من حماسهم الزائد لها ويقينهم الصوفي بجدواها في ذلك الوقت ..بل وإقناع الشعب بها!!!!
بكل الأحوال صارت هذه الشعارات نسياً منسياً..وإن كان أصحابها مستعدين لانتاج شعارات من نفس النوع في كل مرحلة.
شعار المقاطعة:
إذا أخذنا نموذجا للخلل البنيوي في عقلية النخبة المعارضة ..وهي نخبة انضمت لها فئات واسعة من الطبقة الوسطى المتعلمة ..لكن دون تاريخ سياسي سابق ..ودون خبرة أو ثقافة سياسية صلبة ومؤثثة. فقد وجدنا في مرحلة الانتخابات التشريعية الأولى أصواتا تقلل من نتائج ما يمكن أن تحدثه انتخابات تشريعية مبكرة بعد أقل من سنة على الثورة. لذلك بدت القوى الثورية الراديكالية مهلهلة تنظيميا وذيلية في انتخابات مجلس الشعب..وغائبة تماما في انتخابات مجلس الشورى. وعلى الرغم من أن المشهد السياسي منذ الاستفتاء على تعديلات الدستور في 19 مارس 2011 بدا واضحاً أن المجلس العسكري الذي قاد المرحلة الانتقالية يدفع بالموقف نحو انتخابات تشريعية مبكرة تتلوها الانتخابات الرئاسية. رغم ذلك بدت القوى الراديكالية ملتهية بتظاهرات التحرير ترقص على إيقاع الأحداث اليومية واعتصامات الشباب في الميدان وعملية اعاشتهم وحمايتهم ..بينما كانت قوى اليمين الديني المتطرف ترتب بصمت وتتحرك في هدوء من أجل الفوز بمقاعد البرلمان.
بل بدا أن القوى السلفية.. وهي قوى حديثة الظهور السياسي وفقيرة في رموزها السياسية استطاعت أن تدفع بعناصرها المجهولة شعبياً والأمية سياسياً في معركة الانتخابات وتحصد ما يقارب من ربع مقاعد المجالس التشريعية بعد أن أجادت استخدام قدراتها اللوجستيكية والتكتيكية. بالمقابل بدت القوى الراديكالية من الليبراليين واليساريين والشباب الثوري مشتتة القوى، مذبذبة المواقف، حائرة بين الاندماج في المسار الانتخابي أو رفضه من الأساس ..وهكذا جاءت نتائجها متواضعة وكارثية على المدى الطويل.
وهنا ربما يثور سؤال اعتراضي: هل تصور كل من قاطع الانتخابات التشريعية وقلل من جدواها أن يأتي يوم يتحكم فيه مجلس..كمجلس الشورى ..الذي أتى بسبعة في المائة من عدد المصريين، على طبخ دستور وصياغة قوانين تغير من بنية المجتمع والشعب ،و تهدم الدولة المدنية الأكثر قدما في المنطقة؟!!
وهكذا تكرر نفس التشتت والتذبذب في انتخابات الإعادة الرئاسية ..ثم في الاستفتاء على الدستور.
وواقع الأمر أننا كنا إزاء واقعة وحيدة محددة في نتائجها العملية: هي أن التيارات الفاشية الدينية نجحت في "تحييد" أدوات السلطة السياسية القمعية..البوليس والجيش. وتجنبت الصدام معها مؤقتا خلال المشهد الافتتاحي للثورة. وظلت هكذا حى تم لها الاستيلاء على الشرعية المؤسساتية.
وقفة عند الدولة المصرية:
هنا نحتاج لوقفة قصيرة قبل الاسهاب في مفهوم "مؤامرة السلطة".
في بلد كمصر تمتع بدولة هرارشية قديمة ..تمتعت السلطة الحاكمة ورأس الدولة بدرجات عليا من الخضوع والاحترام والرهبة..وكان الحاكم قادراً في معظم لحظات التاريخ المصري على صبغ المجتمع والمؤسسات بصبغته الخاصة. ومراجعة بسيطة للتاريخ المصري الحديث منذ جمال عبد الناصر والسادات ومبارك تظهر القدرة الفائقة التي يكتسبها الحاكم في اخضاع مؤسسات الدولة لاتجاهاته وميوله وانحيازاته. هذا لا يعني بالطبع غياب كلي لأي معارضة..ولكنه يعني سيادة مظاهر " الانصياع للشرعية" الحاكمة في معظم الفترات..فيما عدا لحظات الفوران الثوري ..المتباعدة ..وقصيرة الأمد في غالبها.
عودة "لمؤامرة السلطة":
كانت دراما الانتخابات الرئاسية خطوة قاصمة في محطات تهاوي الدولة المدنية ...وتجلي حقيقي عن "الوعي المفوت" للنخبة ..كما كان يسميه المفكر السوري "ياسين الحافظ"
ان ما حدث من "انصياع" تام لمؤسستي البوليس والجيش لسلطة الحاكم الجديد لم يكن أمرا غريباً..لا يعد بالنسبة لي مفاجأة أو خروجا على السياق التاريخي العام للدولة المصرية النهرية الهيدروليكية ذات الاستبداد الشرقي العتيق ..حيث اتحدت سلطة الحاكم مع سلطة الفرعون الإله.
وهكذا يبدو لي أن كل ما يكتب عن "آخر الفراعنة" منذ جمال عبد الناصر حتى مبارك، هو محض أمنيات وأحلام ..حتى الآن على الأقل.
هنا نصل إلى شعار المقاطعة:
في بلد حرم من الحياة الحزبية لفترة طويلة..وحرم شعبه من المشاركة السياسية الايجابية لعقود طويلة ..وتعود أبناءه على النظر الى تزوير الانتخابات كأمر سيء من أمور القدر كالفيضانات والسيول لا حيلة لهم فيه..هنا تصبح دعوة "المقاطعة" هي دعوة مريحة للجمهور، فالمقاطعة لا تكبده عناء الذهاب الى صندوق الانتخابات والوقوف في طوابير طويلة مملة.. وتريحه من عناء مواجهة القاضي الموجود على الصندوق والتشكك في هويته والتجرأ على مطالبته بإظهار هويته..وهو المرعوب دوما من ممثل السلطة..ولو كان غفيرا للدرك..ثم أن دعوة المقاطعة لا تجشمه عناء الشجار مع المزورين أو مراقبتهم وكشف تزويرهم بالعين ..باختصار دعوة المقاطعة لا تخرج المواطن المصري حالة السلبية واللامبالاة التي تشكل احد مظاهر الشخصية المصرية.
وبالتحليل الأخير ..ستجد أن الخصم ماض في مشروعه للتمكين..وان دعوة "المقاطعة" لم تعرقل مشروعه الداخلي ..وهو غير عابئ بسوء سمعته الخارجية..كما يتصور عادة المقاطعون!!
إن الهدف الأساسي من هذا المقال ..اذا كان له من هدف..شيئين: الأول هو التركيز على أن فكرة العمل الثوري هي تكنيكات وتكتيكات ملائمة لحسم مسألة السلطة.
في هذا الصدد يجابهني دوما سؤال: هل كان تاريخنا العربي الإسلامي قابلاً للتغير على نحو جذري لو انتصر سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه على معاوية بن أبي سفيان؟!!
فالأول يمثل النموذج الثوري في نقائه ..والثاني يمثل النموذج السلطوي في دهائه!!
خطوة الى الوراء من أجل خطوتين الى الأمام:
في ضوء الوقائع التي مرت بها مصر في السنتين الأخيرتين..يمكن تمييز معركتين: معركة التطور الديمقراطي..ومعركة الدولة المدنية.
لقد هدفت الثورة المصرية بشكل واضح الى انهاء النظام الديكتاتوري الفردي ..والتحول لنظام ديمقراطي تعددي..وتلك مهمة ثورية بامتياز لظروف بلد ومنطقة تعاني من الاستبداد الشرقي في أزهى تجلياته!
والمهمة الثانية للثورة هي تحديث الدولة المدنية ودخول مصر الى العصر والتاريخ ودولة المؤسسات وسيادة القانون والمساواة واللحاق بالمتقدمين.
عمليا: انتهت الثورة باستبدال ديكتاتور مدني بديكتاتور ديني تسنده ميليشيات مسلحة وطائفية واقصائية ...وعلى صعيد الدولة المدنية انتهى الصراع على السلطة بوصول المتطرفين الدينيين وقبضهم على زمام الأمور في الدولة المحورية في المنطقة.
والحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن القوى الثورية قد أخطأت خطأ فادحاً حينما لم تفرق بين معركة الثورة ومعركة الدولة ..فخسارة معركة الثورة مرحليا ..لا تعني التضحية بالدولة المدنية المصرية التي نمت وتطورت عبر قرنين من الزمان منذ محمد علي.
لم يستطع الثوريون القادمون من عالم الشعارات الزاعقة التمييز بين مهمة حماية الثورة من أعدائها وبين مهمة حماية الدولة المدنية من السقوط تحت أقدام القوى الفاشية اليمينية. فبينما تعد المهمة الاولى مهمة هجومية، بينما تعد مهمة حماية الدولة المدنية مهمة دفاعية خصوصا بعد انتكاسة الثورة.إن حماية الدولة المدنية هو خطوة الى الوراء من أجل خطوتين الى الأمام واستعادة الدولة المدنية في مصر هي محور الصراع الحالي وجوهره.
ان أي حديث عن الثورة قبل استرداد الدولة المدنية بمؤسساتها العصرية هو حديث واهم وغير واقعي.
ماذا يعني ذلك ..إذا كان يعني شيئا؟
يعني أن مهمة بناء جبهة عريضة من كل القوى والرموز المدنية دون اقصاء لأحد ..اللهم إلا من ارتكبوا جرائم فساد ثبتت بأحكام قضائية دامغة ..دون اقصاء لأي قوى أو رموز مؤيدة لشعار الدولة المدنية ..حتى لو كانت محسوبة على النظام القديم..أو ما يسمى الفلول هذه الجبهة مهمتها الأساسية تنسيق جهود الشعب المصري لمقاومة الفاشية الدينية ..كما كان الحال في فرنسا بعد الاحتلال النازي.
هنا ينبغي أن نذكر أننا يجب أن نميز بين نوعين من الجبهات: الأولى وهي الجبهة الوطنية الديمقراطية التي تلتقي فيها القوى والأحزاب على أهداف عامة لا تتطلب فرزاً طبقياً أو اجتماعيا..وتنشأ لضرورات عامة تضم كل طبقات الشعب كمقاومة الاحتلال أو مقاومة نظام حكم فاشي يتطلب وحدة وتعاون كل أفراد الأمة دون تفرقة .بينهم في الأصول الطبقية أو الأيديولوجية. بل قد تضطر الأمم أحيانا إلى جمع عناصر متنافرة ومتحاربة في ماضيها القريب من أجل مواجهة خطر مشترك. ومن ذلك تشكل جبهة الحلفاء من فرنسا وانجلترا وأمريكا..وهي بلدان رأسمالية ..مع الاتحاد السوفييتي الشيوعي لمواجهة خطر دول المحور: ألمانيا وايطاليا وتركيا واليابان. رغم العداء الدموي بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي قبل الحرب.
النوع الثاني من الجبهات، هو ما يسمى بالجبهات التقدمية أو الثورية. وهي جبهات تتطلب درجة أعلى من الفرز السياسي والطبقي كما حدث عند تشكل دول الكتلة الاشتراكية في مواجهة دول حلف الأطلنطي بعد انتهاء الحرب بانتصار الحلفاء وهزيمة دول المحور الفاشي - النازي.
ومن المعلوم تماماً أن قانون الجبهة هو الوحدة والصراع ..لذلك فهي مؤقتة تنتهي تحقيق الهدف المرجو منها أو فشلها في تحقيقه.
لذلك فالمفاضلة في وضع مصر الحالي بين الدعوة إلى بناء جبهة وطنية ديمقراطية من أجل استعادة الدولة المدنية أو جبهة تقدمية ثورية من كل العناصر الثورية فقط، هو اختيار ينبغي بحثه على أساس ميزان القوى ونوازع الشعب المصري المعلنة والمضمرة..وقدرة أحزاب الجبهة على قيادة الشعب في مواجهة سلمية،أو في ظل احتمال وشيك بمواجهة عنيفة اذا احتدم الصراع وحشد الخصم كل امكانياته.
وهذه الجبهة الواسعة ستضم بالقطع كل القوى والرموز المناوئة للنظام الفاشي من راديكاليين ورموز من النظام السابق لمبارك كالفريق شفيق وعمرو موسى وهاني سري الدين وزياد بهاء الدين وآخرين ..وستضم ضمن ما تضم رموز وقوى إسلامية معارضة لحكم الإخوان ..حتى تلك التي خرجت منه وعليه وبقيت كأفراد أو تكونت كأحزاب سياسية كمحمد حبيب وكمال الهلباوي وثروت الخرباوي وعبد المنعم أبو الفتوح ومجدي أحمد حسين ووحيد عبد المجيد. فمعيار الفرز والانضمام للجبهة هو برنامج الحد الأدني الديمقراطي:
1 مدنية الدولة والمجتمع
2 سيادة القانون وحماية مؤسسات الدولة المدنية واستقلال السلطات
3 تداول السلطة واحترام قيم الجمهورية.
ليس مطلوباً أكثر من ذلك لقيام الجبهة الديمقراطية في الوقت الراهن .وهو جهد ستتفهمه جموع الشعب المصري في الوقت الراهن وهي ترى وتلمس لمخاطر الداخلية والخارجية التي عصفت بالدولة المصرية بصعود اليمين الفاشي المتطرف الى الحكم وتهدد بانهيارها الكامل في المدى المنظور.
أما الحديث عن قيام جبهة تقدمية ثورية من العناصر التي لم تتعاون مع النظام السابق ..فهو أمر يبدو لي غير عملي في الوقت الراهن ...لماذا؟
أولاً: لأن القوى الراديكالية..أو المسماة بالقوى الثورية..لا تشكل اتجاهاً سائداً أو مسيطراً على الشارع المصري ومواطنيه ..بل لازلت تشكل اتجاها أقلويا ..محصورا في عدد من الشباب الثوري من اليسار المصري وبعض الرموز السياسية التي أفرزتها مصادمات الحقبة الأخيرة خصوصاً الانتخابات الرئاسية..وحقيقة الأمر أن الحشد العددي لجمهور هذا التيار لا يتعدى عشرات الآلاف.. في بلد يحتاج لتخليصه مما وقع فيه الى حشد وتعبئة بالملايين.
ثانيا: أن قيام جبهة تقدمية ثورية في الوقت الراهن، يقتضي ضمن ما يقتضي ..عزل قوى كثيرة وإخراجها من دائرة الصراع كأعضاء الحزب الوطني ورجاله ورموزه السياسية ورجال أعماله. وفي هذه الحالة سينصب جهدها .. في الحد الأدنى ..على العمل منفردة وفق مصالحها وقوانينها بعيدا عن الجبهة التقدمية . وهذا يشكل تفتيتا وخطراً وإضعافاً لوحدة الشعب المصري. لكن الأخطر في رأيي أن تتوجه هذه القوى "المعزولة" إلى التحالف مع النظام الفاشي وفق مبدأ المصلحة المشتركة..وهو ما بدأت تظهر بعض بوادره من وجود لبعض رجال الأعمال من النظام السابق مع رجال الاعمال الإخوانجية وفق مبدأ لا ضرر ولا ضرار!!
ثالثاً: إن قيام الجبهة التقدمية الثورية في الوقت الراهن يعني ضمن ما يعني تفكيك جبهة الانقاذ الحالية ..والاتجاه نحو تشكيل الجبهة التقدمية الثورية..مما يعني عزل كتل حزبية مهمة خارج الجبهة .باعتبار أنها مارست أو تعاملت مع النظام السابق بدرجة أو بأخرى: تكتل عمرو موسى ..تكتل الوفد ..تكتل ساويرس ..تكتل أسامة الغزالي حرب .وبعض الرموز الفردية كعمرو حمزاوي ووحيد عبد المجيد وزياد بهاء الدين ..وبعض الشخصيات الإعلامية المشهورة التي كانت مع النظام السابق وفي مقدمة صفوفه ..وهي أسماء مشهورة ومعروف تاريخها في التعامل مع النظام السابق "الفلول" ..ولكنها ..بقدرة قادر ..صارت في مقدمة الصفوف في مقاومة الفاشية..وليس من المجدي أو العملي عزلها عن العمل السياسي أو "تجريسها" بماضيها ..خصوصاً أن ما يؤخذ على بعض شخصيات جبهة الانقاذ الحالية قد يكون منطبقا و أكثر هولاً على بعض شخصيات ورموز النظام السابق الموجودة خارج جبهة الانقاذ ..ولا داعي لذكر أسماء من هنا أو هناك في الوقت الحالي!
رابعاً: وأخيراً..إن الخيار ما بين الجبهة الديمقراطية ..وبين الجبهة التقدمية الثورية يعتمد في التحليل الأخير ..على وزن القوى الثورية الحقيقي في الشارع وليس على نبل مقاصدها أو معصومية شعاراتها الثورية.
إن الواقع الراهن وموازين القوى وخطورة الوضع السياسي في مصر الآن لا يسمح بأي مغامرات سياسية ولا يحتمل أي مزايدات ثورية ..فهذا هو آخر ما تسمح به ظروف مصر الآن.
وعلى الله القصد والسبيل .وعاشت مصر وطناً للحرية والاستنارة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.