أتت التقديرات الأمنية والعسكرية في العامين الجاري والماضي في إسرائيل، لتحمل تغير مهم عن معظم تقديرات الأعوام السابقة في نفس الإطار المتعلق بالتهديدات والمخاطر والفرص التي تواجهها تل أبيب؛ والتي حصرت في السنوات الأربعة الماضية المخاطر والتهديدات في المقاومة في مختلف البلدان العربية المجاورة لفلسطينالمحتلة، بما فيها سوريا، التي قدرت تل أبيب في بداية الأزمة في 2011 أنها ستكون مقسمه لكيانات يتحالف بعضها مع إسرائيل، ويتم توظيفه كحائط صد مبكر لأي تهديد قادم من سوريا أو لبنان. وعلى الرغم من تحقق السابق جزئياً طيلة الأعوام السابقة ل2017، ولكنه تحقق دون استقرار أو تمدد وتعميم، لينتهي إلى مجموعات من جبهة النُصرة في الجولان السوري تقوم بدور أقل مما قام به "جيش لحد" في جنوبلبنان منذ منتصف السبعينات وحتى تحرير جنوبلبنان عام 2000. من الخطر إلى التهديد الوجودي ومن ناحية أخرى أطاحت التهديدات والمخاطر بأي فرص ممكنه، حيث باتت هذه الفرص التي برعت إسرائيل منذ نشأتها في توظيفها واستثمارها غير مكافئة للتهديدات، فمثلاً في تقديرات 2013 و2014 كان خلق مجال استراتيجي بين تل أبيب وعواصم الخليج يمثل فرصة لها فوائد كثيرة أهمها ضمان دمج واستمرار إسرائيل في المنطقة، وتحقيق تحالف سياسي بينها وبين هذه الدول العربية ضد "عدو مشترك"، ولكن ما ثبت أن هذا التحالف بكل ما بذل فيه غير مكافئ ولا يدحض التهديدات العسكرية المباشرة باعتراف كبار المسئولين العسكريين والأمنيين في الكيان الصهيوني. أما عن التقديرات الجديدة، والتي تصدر عن مختلف الدوائر الأمنية والعسكرية والبحثية في إسرائيل، بخلاف تأكيدها على أن المقاومة هي الأكثر خطورة على وجودية الكيان، لا داعش أو أخواته من التنظيمات التكفيرية الإرهابية، فإنها باتت الأن تتحدث وبشكل صريح ومباشر عن "لا حرب بدون قيادة ومشاركة أميركية" ضد المقاومة في لبنانوسوريا؛ فبعد عام من بالونات الاختبار والاشتباكات المحدودة لجس النبض والقدرات والجهوزية، يصبح قرار الحرب لأول مرة منذ 1948 في يد خصوم إسرائيل، ويصبح الخيار العسكري –الذي تُرجم في مناورات دفاعية الطابع- ليس فقط الخيار الأسوأ الذي يمكن تجنبه عبر خيارات الحصار الاقتصادي مثلاً وتطويع البيئة العربية عبر تسويات وسلام دافئ أو عبر مجموعات إرهابية تحارب وتشغل المقاومة بدل من جيش الاحتلال، ولكن بمثابة الكابوس الأكثر رعباً الذي يمكن أن يتحقق، والذي يمس حال حدوثه فكرة استمرار تواجد إسرائيل نفسها. تهديد لايكافئه تحالف "السلام الدافئ" على الرغم من مناخ التحالف بين دول عربية وإسرائيل غير مسبوق في مداه وعمقه وتشعبه، الذي يعد التغير "الإيجابي" الأهم في مسار علاقات الكيان الصهيوني بدول المنطقة منذ 1948، الذي تجاوز في مداه اتفاقيات السلام الثنائية بين تل أبيب والقاهرة وعمان، وتطوره من شكل ثنائي إلى نمط تحالف سياسي يوطد أساسه الاقتصادي والثقافي والإعلامي في السنوات الأخيرة، وتجلى السابق في جو محموم من المنافسة لقيادة تعميم التطبيع مع إسرائيل بين الدول العربية الحليفة لواشنطن، خاصة دول "الاعتدال العربي": السعودية والإمارات ومصر، الذي تشكل مسألة إدارة العلاقات العربية- الإسرائيلية وقيادتها ليس فقط محوراً للتلاقي وتوطيد التحالف بينهم، ولكن أيضاً عامل منافسة فيما بينهم، وخصومة مع أطراف إقليمية أخرى مثل قطر وتركيا، بالتالي من البديهي أن يكون مناخ التكامل تارة والتنافس تارة والخصومة تارة أخرى في صالح دولة الاحتلال، لكن رئيس الموساد الإسرائيلي، يوسي كوهين، لديه رأى أخر في هذا السياق أبعد ما يكون عن أن التغيرات الحالية في المنطقة التي في ظاهرها وباطنها تصب في مصلحة إسرائيل، يراها هو في تقرير رسمي عرضه على الحكومة الإسرائيلية بحضور رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، في أغسطس من العام الماضي أنها "تسير عكس مصلحة إسرائيل!" هذا الأمر من زاوية ميدانية عسكرية لم يؤثر في زحزحة المخاطر والتهديدات التي تفرضها المقاومة على إسرائيل، فحتى مع التجريب في أزمة استقالة سعد الحريري، التي رأتها الرياض فرصة لأن تقوم تل أبيب بشن عملية عسكرية على لبنان، يتوفر لها الغطاء السياسي والإعلامي السعودي/العربي، سواء للعجز أو لعدم الثقة أو اختلاف العقلية. وسياسياً يبدو أن هذا التحالف حتى الأن على الرغم من القفزات الواسعة سريعاً فيه في السنوات الأخيرة، وما يبذل بكافة المستويات الاقتصادية والسياسية والجغرافية والاجتماعية والإعلامية، لم يأتي أكله بالنسبة لتحقيق توازن يجنب إسرائيل مستقبلاً تحقق كابوسها الأسوأ. قرار الحرب لم يعد إسرائيلياً هنا نجد ولأول مرة أن إسرائيل صارت تتجنب الاشتباك العسكري مع المقاومة، أو بمعنى أخر أن تل أبيب فقدت ميزتا المبادرة والمبادأة بالحرب، وهي الميزة التي ضمنتها تاريخياً بدافع من تحقيق استمرارية وجودها، أو الدعم والرعاية الأميركية بكافة أشكالها. وذلك لأن هذه الحرب القادمة ليست فقط ستنتهي كحروب إسرائيل الأخيرة منذ 2000 بالإخفاق الكلي أو الجزئي، ولكن لاحتمالية أن تتحول هذه الحرب القادمة لما هو أكبر من جولة عسكرية تحدث كل عدة سنوات بمبادرة ومبادأة تل أبيب؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر تصبح فلسطينالمحتلة هي خارطة الميدان الحربي لعمليات عسكرية يشتبك فيها جيش الاحتلال على أرضية السيطرة والحيازة وليس الاستباق والاستنزاف. الأمر المستجد برمته يختلف عن ما اعتادت عليه إسرائيل في حروبها الأخيرة، من أن نقطة تفوق المقاومة المتمثلة في عمليات القصف بالصورايخ المختلفة من حيث الكم والكيف والكفاءة، يمكن معالجتها بإجراءات مضادة مثل القبة الحديدية وأخواتها، أو استهداف مرابض الصواريخ وإعاقة خطها اللوجيستي، ولكن ماذا عن إمكانية التدخل البري والسيطرة على أراضي ومواقع جغرافية ومدن بكاملها داخل فلسطينالمحتلة، ليس كمغامرة انتحارية، ولكن استناداً على خط تمويل وإمداد لوجيستي مساحته الجغرافية ممتدة من الجبهة في شمال فلسطين أو هضبة الجولان المحتلة وحتى الأراضي الإيرانية، مروراً بلبنانوسوريا والعراق، وهو الأمر الذي تفوق خطورته بكلمات رئيس الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين ونائب رئيس الأركان السابق ومسئول تطوير العقيدة الأمنية الحالي يائير جولان، مكتسبات التحالف مع دول عربية على أرضية العدو المشترك المتمثل في المقاومة، وكذلك عجز إسرائيل العسكري بدون واشنطن عن كبح خطورته وتحييده، بسبب أنه لم يصبح خطر محلي في بقعة جغرافية محددة، ولكن امتداداته تشمل اتساع جغرافي ولوجيستي على طول المنطقة. أي باختصار مُخل: أصبحت المقاومة الأن تمتلك ماهو أكثر من معادلة ردع تجاه العدو الصهيوني وحلفائه، فبشكل استراتيجي تمتلك المقاومة الأن ما يمكنها من الانتقال إلى المرحلة الثالثة في استراتيجية التحرير؛ الهجوم والمبادأة والمبادرة، فما معنى أن "تصرح" إسرائيل على خجل بأن 2018 لن يشهد أي نشاط عسكري لجيش الاحتلال، وذلك بموازاة خطاب للدوائر العسكرية والأمنية يضع صانع القرار والرأي العام في الكيان الصهيوني أمام أمر واقع من حيث إمكانيات "العدو" الاستراتيجية الجديدة.