تفاخر رئيس الوزراء المكرر بتطور العلاقات بين إسرائيل ودول عربية كالسعودية والإمارات وكل الدول التي تدور في فلكهم لا تنفي واقع تهديد كبير على حدودنا وسيطول الداخل، وتحييد هذا لا تقوى عليه حدود قدرتنا العسكرية والسياسية حتى بالتحالف مع هذه الدول، العامل الحاسم أولاً وقبل أي شيء أخر عند واشنطن وموسكو، هؤلاء من يستطيعوا أن يبعدوا إيران عن حدودنا". بهذه الكلمات ختم المعلق العسكري المخضرم في القناة الثانية الإسرائيلية، أمنون ابراموفيتش، مداخلته التي أجراها مع نفس القناة بمناسبة المناورات الأخيرة التي أجرتها قوات الاحتلال في شمال وشرق فلسطينالمحتلة، والتي امتدت إلى تطبيق مناورات على الجبهة الداخلية وصولاً إلى سيناريوهات التصدي لتوغل عسكري "معادي" من الشمال أو الشرق. وتأتي المناورات في وقت حرج وحساس فيما يتعلق بتطورات الأوضاع العسكرية والسياسية في المنطقة وتحديداً في سورياوالعراقولبنان، وارتباط ذلك بخلق واقع جيوستراتيجي جديد مفاده تأسيس وجود مستدام لمحور المقاومة يحيط بفلسطينالمحتلة بشكل يشكل تهديد استراتيجي على المستوى الراهن والمتوسط والبعيد على وجود إسرائيل بحسب تصريحات مختلفة لمسئولين إسرائيليين طيلة الأسابيع الماضية، كجزء من مناخ جدال عام في الداخل الإسرائيلي بين مختلف الدوائر السياسية والعسكرية والأمنية، وصل بطبيعة الحال إلى الإعلام، يدور حول ما احتاطت به حكومة نتنياهو أمام المتغيرات الجيوستراتيجية والإستراتيجية الجديدة بعد الإنجازات الميدانية التي حققها محور المقاومة من العراق وحتى لبنان مروراً بسوريا، والتي أجهضت أي مخططات من شأنها الحفاظ على مصالح إسرائيل على ضوء تطورات ما بعد 2011، وهو الأمر الذي على الجانب الأخر يحاجج نتنياهو بأن العلاقات مع دول عربية وتقويتها لمستوى تحالف تكفي لأن تكافئ وتجابه هذا الخطر "الأعظم" الذي لا تقدر إسرائيل على مواجهته بتصريحات عسكريين إسرائيليين. أبرز هؤلاء العسكريين كان النائب السابق لرئيس أركان جيش الاحتلال، الجنرال يائير جولان، الذي قال في مداخلته في ندوة نظمها معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أن "حدود قدرة تل أبيب على مواجهة المتغيرات الاستراتيجية في المنطقة التي تميل لمصلحة إيران محدودة بدون الولاياتالمتحدة، فالتهديد الإيراني كبير للغاية والتعاون بيننا وبين واشنطن مهم أكثر من أي وقت مضى في سياق هذا المتغير الخطير"، داعياً في الندوة التي حضرها ممثلاً عن وزير الأمن الإسرائيلي، أفيجدور ليبرمان، إلى عدم مساواة تهديد داعش لإسرائيل بتهديد إيران لها، فعلى حد تعبيره "الإيرانيين أكثر خطورة من داعش لأنهم يملكون تقدماً على كافة المستويات بشكل بنيوي أكثر من داعش، من حيث قدرة التصنيع والكوادر العلمية والكثير من الشباب الذين يمتلكوا الموهبة في كثير من المجالات، بما في ذلك البنية التحتية الأكاديمية بما يشبهنا بشكل كبير، وبذلك هم أخطر من داعش، وأعتقد أننا لا نستطيع مواجهتهم وحدنا لهذه الأسباب التي تجعل خطرهم ليس أمراً مؤقتاً وظاهرة لها مدى زمني معين ولكن خطر استراتيجي يتطور بقفزات كبيرة إذا ما نظرنا له من زاوية كيفية العمل التي تضطلع بها طهران وحلفائها في المنطقة". الجنرال الإسرائيلي الذي ترك منصبه السابق في هيئة الأركان الإسرائيلية، لتكليف جديد في وزارة الأمن، يضطلع بمهمة حساسة وهامة للغاية هي تطوير العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وهي المحرك الأساسي لتوجهات إسرائيل العسكرية والأمنية والسياسية منذ نشأتها، والتي لم يجري تطويرها بشكل موسع منذ أن صاغها مؤسسو الكيان من عهد بن جوريون، وهو الأمر الذي ألح في صوغها بناء على معطيات جديدة فرضها العقد الأخير منذ حرب تموز 2006، ومتغيرات ما بعد 2011 حتى داعش وما بعد داعش، والتي تبدل فيها الخطر الأكبر على إسرائيل من وجود بيئة معادية من جيرانها العرب، إلى تحييد هؤلاء الجيران بشتى الطرق منذ 1979 مروراً بأوسلو ووادي عربة، وصولاً للمبادرة العربية للسلام والتحالف بين تل أبيب وعواصم عربية مهمة مثل الرياض وأبو ظبي، وهو ما لم ينهي فرص متنامية تهدد استمرار وجود إسرائيل، والممثلة في محور المقاومة، الذي أنتقل من مقاومة مدعومة تدافع إلى مقاومة تؤسس لواقع استراتيجي يردع ويوازن القوة الإسرائيلية في مرحلة يعتبرها الكثيرين سابقة لمرحلة بداية المبادرة والمبادأة، بواقع بديهية الدفاع ثم التوازن ثم الهجوم. جولان أشار إلى بديهية النظر إلى "التهديد الإيراني" أنه ليس تهديداً عسكرياً فقط، ولكن تهديد استراتيجي بكافة أشكاله وتفريعاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، حيث ترسيخ فكرة إمكانية مقاومة وتهديد إسرائيل وحصارها، على خلاف ما كانت تُهدد به إسرائيل سابقاً، حيث قال "لا يوجد تهديد مماثل يمكن مقارنة التهديد الإيراني به، لقد تعاملت بشكل شخصي مع تهديدات عسكرية ضد إسرائيل، عندما كنت أتولى قيادة الجبهة الشمالية كنت أرى عناصر داعش جنوب الجولان في دوريات قرب السياج الحدودي معهم بنادق ak-47 وهذا لا يدل على شيء. هذا تهديد متخلف وصغير ومحدود على الرغم من الشعارات والعزم البادي فيها، لكنني أعرف كيف أتعامل مع هكذا أمر". في إشارة إلى جوهر الاختلاف بين ما تشكله هذه الجماعات الإرهابية ذات التهديد المنعدم ضد إسرائيل، وبين ما يشكله محور المقاومة من خطر حقيقي على استمرار إسرائيل في المستقبل المتوسط، مضيفاً "إسرائيل ليست بالقدرة التي تمكنها على محاربة إيران بشكل مباشر لأن تل أبيب لا تملك مقدرات عسكرية كالتي تملكها واشنطن، نعم لدينها قوة تؤلمهم وتؤثر فيهم ولكنهم بالمقابل يستطيعوا أن يؤثروا علينا، أي أنها حرب استنزاف متنوعة الأساليب، لكن النتيجة الأكثر نجاعة وذات تأثير جذري بما فيها الانتصار عليهم لا يمكننا القيام بها وحدنا". وفي سياق متصل، ينبغي الإشارة إلى أن المناورات التي أجرتها إسرائيل مؤخراً اتسمت بطابع دفاعي وهو أمر يعد جديد ومستحدث على العقيدة العسكرية الإسرائيلية إذا ما تم وضعه في إطار هدف المناورات الأكبر وهو "منع توغل بري" داخل فلسطينالمحتلة من الشمال أو الشرق من جانب قوات هجينة تمتلك إمكانيات وتكتيكات احتلال المدن والمفاصل الاستراتيجية الجغرافية ذات العمق الممتد والسيطرة عليها والتمركز بها على غرار ما حدث في العراقوسوريا، مثل قوات حزب الله أو الحشد الشعبي، وغيرها من الأطر العسكرية لمحور المقاومة بخلاف الجيوش النظامية الاعتيادية. هذا الأمر في ذاته يشير بقوة إلى تخوفات إسرائيلية من حرب قادمة قد تكون لأول مرة مفروضة عليها من حيث التوقيت والمكان وليس كمبادرة إسرائيلية كحروب سابقة خاضتها تل أبيب منذ 1948، والتي منذ 1973 فقدت فيها المبادأة والمبادرة، أو بالحد الأدنى استطاعت بعد أكتوبر 1973 أن تبدأها في لبنان أو غزة لكن لم تستطع إنهائها بمنطق تحقيق الأهداف وإحراز نصر، ليتدهور هذا حالياً إلى فقد إسرائيل قدرة وميزة المبادرة والتدرب على مناورات "دفاعية" بالكامل غايتها الحيلولة دون نجاح حزب الله دخول فلسطينالمحتلة في أي مواجهة عسكرية قادمة! هذه المتغيرات الاستراتيجية بشكل عام يمكن تلخيصها في واقع جيوستراتيجي جديد ولوجيستي مفاده أن الطريق من طهران لبيروت مروراً ببغداد ودمشق صار معبداً أمام إيران وحلفائها وحركات المقاومة المختلفة، التي تجعل حزب الله بعبارة وردت في التقرير السنوي الخاص بالفرص والتهديدات قبل عامين "قوة في حجم دولة تهدد إسرائيل بشكل وجودي تخطى المعالجة الأمنية والعسكرية وإمكانية الردع المتبادل"، وبالتالي فإن هذا الأمر على مقياس أعم يشكل كابوساً لدى صانعي ومتخذي ومقدري القرارات في الكيان الصهيوني. هذا الأمر لا يشكل قلقاً لدى إسرائيل فقط، وإن كانت تختص بقدر أكبر من حيث البُعد الوجودي وحدية الصراع بينها وبين محور المقاومة، ولكن أيضاً يشكل قلق للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة بمقاييس مختلفة من حيث المصالح والفرص والمخاطر، وتولد عن هذا القلق في الشهور الأخيرة سلسلة من الإجراءات بين التحدي والاستجابة للحيلولة من تحقق واقع جيوستراتيجي جديد يصل بين طهران وبيروت، أي أن لا يكون هناك عائق في شكل دولة أو نظام أو جماعة أو كيان يعطل أن تكون الجغرافيا الواصلة بين العاصمتين خالصة لمحور المقاومة، وانعكاسات ذلك على مستوى لوجيستي يضاعف المخاطر التقليدية على إسرائيل لأمديه غير مسبوقة، ويضعف أيضاً من موقف واشنطن على مقياس إقليمي في تحقيق مصالحها بالشكل الأمثل، فيما يحد من مساعي الرياض –التي وصلت علاقاتها بإسرائيل لمستويات غير مسبوقة– وأبوظبي في التصدي للنفوذ الإقليمي لطهران، بل ويعقد كافة خطواتهم لتحجيم هذا النفوذ سواء بشكل منفرد أو تحت مظلة واشنطن، أو بالتحالف مع إسرائيل.