زيارة خاطفة أجراها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أمس إلى قاعدة حميميم العسكرية على الأراضي السورية، ورغم أنها استمرت ساعات قليلة، إلا أنها حملت في طياتها الكثير من الرسائل السياسية والعسكرية، على رأسها إعلان النصر النهائي على داعش، وما يترتب عليه انسحاب جزئي من سوريا. بعد أيام قليلة من إعلان روسيا سحق تنظيم "داعش" في سوريا، زار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أمس قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية، بصحبة وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويجو، والتقى خلال الزيارة الخاطفة بالرئيس السوري، بشار الأسد، ورئيس أركان الجيش السوري العماد علي عبد الله أيوب، حيث أشاد الرئيسان بالنصر على تنظيم داعش، وأكدوا أنه ما كان ليتحقق لولا التنسيق والتعاون المشترك بين القوتين. الأبرز في زيارة الرئيس الروسي السريعة إلى سوريا، إعلانه المفاجئ سحب جزء من قواته في سوريا، فمن قاعدة "حميميم" السورية، أمر الرئيس الروسي، بسحب جزئي لقوات بلاده المنتشرة في سوريا نحو قواعدها الدائمة، ليتركز وجودها هناك، إلى جانب وجودها في بعض النقاط التي تؤدي فيها مهمات محددة، وبينها مراقبة مناطق تخفيف التصعيد، في مؤشر واضح على رغبة موسكو في صب اهتماماتها خلال الفترة المقبلة على طاولة المفاوضات والحل السياسي. لم تمر ساعات حتى خرج وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويجو، ليؤكد أن وزارته بدأت بالفعل تنفيذ الأمر، فيما أكد قائد المجموعة الروسية، سيرغي سوروفيكين، إن روسيا ستسحب من سوريا 23 طائرة ومروحيتين والشرطة العسكرية ومركز إزالة الألغام والمستشفى العسكري، لتبقي قواتها في قاعدة حميميم وطرطوس. بالفعل، أعلنت وزارة الدفاع الروسية، اليوم الثلاثاء، عن وصول كتيبة من الشرطة العسكرية الروسية من سوريا بقوام 200 فرد، قائلة: حطت طائرتا نقل عسكري اليوم قدمتا من سوريا في مطار محج قلعة في جمهورية داغستان الروسية، وعلى متنهما مئتا فرد من رجال الشرطة العسكرية التابعين للدائرة العسكرية الجنوبية. العديد من السياسيين رأوا أن الخطوة الروسية لم تكن مفاجأة على الإطلاق، سواء للرئيس الأسد أو اللاعبين الإقليميين في الأزمة، حيث أكد بعضهم أن الخطوة تم دراستها بعناية خلال الزيارة الأخيرة التي أجراها الرئيس السوري إلى روسيا قبل أسابيع، وتم التأكيد أنها لا تحمل تأثيرات عسكرية على أرض الواقع، كما سبق أن أكد الرئيس الروسي منذ البداية، أن قواته ستتواجد في سوريا حتى يتم تمهيد الطريق أمام مسار سياسي واضح، فيما لوح أمين مجلس الأمن القومي الروسي، نيكولاي باتروشيف، بالأمر نفسه قبل نحو شهر، في حين سبقه إلى ذلك، رئيس الأركان العامة في الجيش الروسي، فاليري غيراسيموف ، الذي أعلن أنه من المرجح خفض القوة العسكرية الروسية في سوريا إلى حد كبير، وأن انسحابًاً قد يبدأ قبل نهاية العام. حصيلة عمل القوات الروسية بحسب معطيات دائرة العمليات التابعة لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، فإن القوات الجوية الفضائية الروسية، شنت منذ بداية العملية في سوريا سبتمبر عام 2015، أكثر من 28 ألف طلعة، ووجهت نحو 90 ألف ضربة جوية، وفي الأشهر الأخيرة، كان الطيران الروسي ينفذ ما يصل إلى 100 طلعة يوميًا، ويسدد ما يصل إلى 250 ضربة جوية في اليوم، وحسب وزارة الدفاع الروسية، فإنه تم القضاء على 54 ألف إرهابي في سوريا منذ بدء العملية، فيما لقي 39 عسكريًا روسيًا مصرعهم أثناء أداء واجبهم العسكري في سوريا، وتم منح 4 منهم لقب "بطل روسيا"، كما خسرت القوات الروسية 4 مروحيات وطائرتين خلال العملية العسكرية في سوريا. في الفترة ما بين نوفمبر 2016، ويناير 2017، شارك في العملية ضد الإرهابيين الطراد الحامل للطائرات "الأميرال كوزنيتسوف"، والذي يعتبر السفينة الوحيدة الحاملة للطائرات في الأسطول الحربي الروسي، ولأول مرة تم استهداف مواقع الإرهابيين بصواريخ "كاليبر" المجنحة، كما وجهت ضربات إلى الإرهابيين قاذفات استراتيجية بعيدة المدى، فيما استخدمت في سوريا لأول مرة القاذفات الاستراتيجية "تو160″ و"تو95". خيارات أمريكا بعد فشل رهاناتها بعد انحسار داعش بشكل نهائي في سوريا، وإعلان القوات الروسية والسورية النصر على التنظيم المتطرف، لم يعد أمام الولاياتالمتحدةالأمريكية العديد من الخيارات، حيث فقدت جميع أذرعها وأوراق ضغطها وخسرت جميع رهاناتها هناك، والتي كانت تتمثل في بداية الأزمة في الجماعات المسلحة التي دعمتها واشنطن سياسيًا وعسكريًا، ثم انتقلت من دعم الجماعات المسلحة إلى دعم قوات حماية الشعب الكردي، وما لبثت أن أعلنت أمريكا تخليها عن دعم قوات "قسد"، فالاضطراب الأمريكي في سوريا ومحاولات اللعب على جميع الأوراق والتنقل بين الرهانات، دفع النفوذ الأمريكي إلى الانكماش وخسارة جميع الخيارات وتسليم سوريا بشكل لا إرادي إلى المحور الروسي الإيراني، الأمر الذي يجعل أمريكا ليس أمامها سوى القبول بالأمر الواقع. ونشرت صحيفة "نيو يوركر" الأمريكية، نقلًا عن مسؤولين أمريكيين وأوروبيين، بأن البيت الأبيض أبدى موافقته على استمرار بشار الأسد في الرئاسة السورية حتى موعد الانتخابات المقبلة في 2021، وقالت الصحيفة إن القرار قد يلغي جميع البيانات السابقة التي أدلى بها البيت الأبيض حول ضرورة رحيل الأسد كخطوة أولى نحو السلام، كما أكدت الصحيفة بأن موقف واشنطن الجديد يعكس الخيارات المحدودة للإدارة الأمريكية في الواقع الراهن، نتيجة للانتصارات العسكرية التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه. وذكرت الصحيفة أن الولاياتالمتحدة، أنفقت أكثر من 14 مليار دولار على الحملة في سوريا، لتدرك بعدها الإدارة الأمريكية بأن الأسد سيستمر في الحكم حتى الانتخابات المقررة في 2021، موضحة أن القيادة الأمريكية تخشى من فوز الأسد واستمراره في السلطة، وأشارت "نيو يوركر" إلى أنه من الناحية الدبلوماسية تم عزل واشنطن من قبل اتحاد ثلاثي قوي، ضم روسيا وإيران وتركيا، الذين يقودون عملية السلام، بعد فشل مفاوضات جنيف ليستبدلوها بمفاوضات أستانة. استياء أمريكي من القرار الروسي القرار الروسي بسحب القوات من سوريا ولو بشكل جزئي، من المفترض أن يلقي بظلاله على الجانب الأمريكي، الذي يُصر على بقاء قواته في سوريا حتى بعد انتهاء المعارك هناك، حيث رأى العديد من المراقبين في الخطوة الروسية محاولة لإحراج باقي القوى التي تمتلك قواعد عسكرية في الداخل السوري، لا سيما الولاياتالمتحدة، خصوصًاً أن الحكومة السورية لا تعتبر الوجود الأمريكي في البلاد شرعي منذ البداية، بسبب تدخلها دون الحصول على موافقة رسمية من الحكومة السورية أو اعتراف من الأممالمتحدة، ليحمل القرار الروسي بسحب القوات رسالة مفادها أن الذرائع الواهية التي دخلت بها أمريكا إلى سوريا انتهت، الأمر الذي دفع القوات الروسية التي دخلت لطلب من دمشق إلى الخروج، ليبقى مصير القوات الأمريكية غير الشرعية من البداية محل تساؤلات. من جانبها، قالت وزارة الدفاع الأمريكية على لسان متحدثها، إيريك باهون، إن إعلان روسيا بدء سحب قواتها من سوريا لن يؤثر على أعمال وأولويات الولاياتالمتحدة هناك، مشككا في جدية القرار الروسي، قائلًا: إن الأخبار الروسية عن سحب القوات لا تعني، في كثير من الحالات، التقليص الحقيقي للقوات، اعتقد أن روسيا ستجري انسحابًا محض رمزي من سوريا، يشمل بعض الطائرات، وأضاف أنها قد تطلب بعد حين أن تنسحب القوات الأمريكية بالكامل من سوريا، مؤكدًا أن التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي تقوده واشنطن سيواصل نشاطه بسوريا. من جانبه، حاول الرئيس الأمريكي تبرير قصف قواته المتكرر للجيش السوري خلال الأشهر القليلة الماضية، سواء في التنف قرب الحدود السورية الأردنية في 8 يونيو، أو في الرقة خلال 18 يونيو عندما أسقط التحالف مقاتلة سورية من نوع "سو-22″، ووجه ترامب، رسالة إلى الكونجرس وصف فيها الضربات على القوات الحكومية السورية بأنها "إجراءات قانونية"، وزعم أنه "منذ صدور التقرير الدوري الأخير، قامت القوات الأمريكية المشاركة في الحرب ضد داعش في سوريا، بتوجيه عدد محدود من الضربات للجيش السوري والقوات الحليفة له، وكانت هذه الضربات إجراءات قانونية تستهدف التصدي للتهديدات الواضحة للقوات الأمريكية وشركائها، المشاركين في هذه الحملة". الإصرار الأمريكي على البقاء في سوريا، يأتي نتيجة تخوف من تسليم القوات الروسية أماكن حيوية في سوريا إلى قوات إيرانية أو أخرى من حزب الله، الأمر الذي يهدد ما تبقى من النفوذ الأمريكي في المنطقة، فواشنطن منذ بداية الأزمة السورية لم تكن معنية نهائيًا بالمعارك هناك، لكنها اقحمت نفسها في الأزمة تخوفًا من الوجود الإيراني في الأراضي السورية، خاصة أنه يهدد أيضًا حليفتها الإسرائيلية التي طالما قطعت واشنطن وعود لحمايتها سياسيًا وعسكريًا.