مواقف متتالية مررت بها في يوم واحد، لم تكن معدة مسبقا وفقا لنظرتنا الظاهرية للأحداث، لكن الحقيقة أنها كانت مرتبة بشكل ترك أثرا كبيرا في داخلي. (1) بدأ اليوم كالمعتاد بالسيارة وفحصها السريع قبل التحرك للعمل، لكن على غير المعتاد قررت ألا أسمع ما اعتدت سماعه صباحا من جهازي المحمول، وأدرت مؤشر الراديو رغم أنها ليست عادتي الصباحية، وكانت المحطة تذيع أغاني وطنية متنوعة فتركتها كوني من محبي سماع الأغاني الوطنية عموما، وأدعي أنها من الأشياء التي تعطيني حماسا وقدرة على مواصلة يومي، ووسط فقرات الأغنية الواحدة وُضعت مقتطفات من خطاب الرئيس، وكان المقطع الأكثر تكرارا هو مقطع «وجبات الشعب المصري الثلاثة» وهل تستطيع الدول التي تتدخل في شئونه أن تطعمه و« تقدر على مصروفه». شعرت بالصدمة وبضيق في التنفس، فالمقطع الذي أثار حفيظتي وجعل العبرة تختنق داخلي من شدة الضيق حين سمعته أول مرة بات مدعاة للفخر في محطات الإذاعة ليوضع وسط الأغاني الوطنية. شككت في قدراتي العقلية لوهلة، وشعرت للحظة أنه ربما أكون أنا من يعاني من مشكلة في الفهم، لكن سرعان ما ذهب الشك واستعدت عافيتي العقلية وإن أصابني الإحباط الشديد الذي بلغ حد عدم قدرتي على إغلاق الراديو من شدة الوهن والإحساس بالضعف واليأس. (2) في نفس اليوم كنت قد كتبت تدوينة صغيرة على صفحتي الشخصية عن رفضي لرأي بعض الذين يتعاطفون مع «المستوطنين الصهاينة» ويرون أنهم "مدنيين" وأن قتلهم عمل «غير إنساني»، وكتبت ذلك وأنا أراه بديهيا. وجدت ردودا من البعض تؤكد نفس النظرة التي أرفضها وأرى رفضها بديهيا عند أي حر، فقالوا أني مخطئ في تقديري، واكتشفت أن قتل «المستوطنين الصهاينة» لم يعد عملا عظيما عند الكثيرين الذين بدأوا يتحدثون عن رفضهم للعمليات الاستشهادية الفلسطينية ويضعون أسسا ممنطقة ومرتبة ومطعمة بكلمات معسولة. شعرت بضيق شديد وإحساس أكبر بالغربة، هل من المعقول أن مثلي أصبح شاذا لهذه الدرجة، هل أعاني من خلل في طريقة تفكيري، لكن سرعان ما استفاق عقلي واستعاد قواه بمنطق وحكمة وثبات، لكن قلبي ظل في كمده وضيقه وغربته. (3) أثناء عودتي كان شغلي الشاغل هو لماذا أنا هنا؟ ولماذا على أن أشعر بأي أمل وسط هذا الذي أعيشه من كمد؟ هل عليّ أن أتعايش مع كثير من الناس انتكست فطرتهم لهذه الدرجة وباتت برهنة البديهيات هي عماد الحوار معهم؟ تحولت لمدة ساعة من الزمن لشخص ناقم على كل شيء حولي، شريط من الذكريات القريبة لأحداث وأمور تدمي القلب وأصوات مناقشات في البديهيات على مدار 5 أعوام تتردد في أذني ومشاهد بالقنوات الفضائية وبرامج التوك شو تتمثل أمامي في زجاج السيارة. «أريد الرحيل» كانت الكلمة التي تصاحبني طوال فترة قيادة السيارة، لا أعرف كيف وصلت؟ وكيف لم أتعرض لحادث وأنا في هذه الحالة من الانشغال والتفكير. (4) قابلت بعد عودتي ومع اقتراب انتهاء يومي أحد الأقارب، سألته عن حاله، فقال لي أنه سيقوم بتطليق زوجته، وأنه لن يستطع إكمال حياته معها، فوجدتني وبحماس عجيب ألومه لوما شديدا، خصوصا حين قال لي «أنا عملت اللي عليّ معاها وزيادة وهي ما بتتغيرش»، قلت له وما يدريك أنك قمت بكل ما ينبغي أن تقوم به، هل قمت بما ينبغي عليك من إصلاحها ونصحها بصدق وعزيمة أم قمت بما ينبغي عليك فقط من نقدها وإثبات جهلها والتقليل من شأنها؟ كان حديث طويل شعرت بسعادة في نهايته حين بدت على وجه قريبي علامات الاقتناع والتفكير فيما أقول. انتهى اليوم .. إن يونس كان من أنبياء الله العظام وخرج مغاضبا، لم يكن عليه السلام غاضبا لنفسه أو دنياه بل كان غاضبا للحق والعدل، خرج وظنه بالله كله خير أنه لن يقدر عليه «أي أنه لن يضيق عليه هذه الدنيا الواسعة»، خرج ليبحث عن شعوب فطرتها سليمة، فالتقمه الحوت وغاب عن الذكر في الظلمات حتى أناب. فكرت مليا وقلت هل حين ينتظر الإنسان الذي يريد إصلاحا ثمرة عمله ليحكم بها على نجاحه أو فشله في تغيير الناس يكون حقا مخلصا؟ أم في حقيقته محبا لنفسه؟ هو يريد أن يشعر بالفخر لنفسه عبر ثمرة عمله ليأكلها هو، بينما قد لا تؤتي شجرة جهوده ثمرها إلا بعد حين وربما بعد وفاته، فهل حين يصر على رؤية الثمر عاجلا فيرحل ويترك الشجرة يكون منصفا؟ أم يكون أنانيا يحرم الناس من الثمرة حبا لنفسه ولرؤية إنجازه؟ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُوم لقد نادى يونس وهو مكظوم، غاضبا من أجل الحق لا من أجل مال أو فقر أو ضيق معيشة أو ظلم شخصي وقع عليه، إنما غاضبا للحق رافضا للظلم لكنه «لم يصبر لحكم ربه»، وذهب يبحث عن الثمار في مكان آخر فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ. وحضرني ختاما ذلك المشهد العجيب الذي لم يدون التاريخ مثيلا له في عظمته وهيبته لذلك الثائر المصلح الذي وقف وقدماه داميتين على أبواب الطائف يرميه الناس بالحجارة ويتهمونه بالجنون ليقول «إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي»، وقف يلتقط أنفاسه وكله أمل أن هؤلاء سيخرج من أصلابهم الثائرون المصلحون يوما ما، وقد كان. إننا حين نشعر باليأس من الناس علينا ألا ندعي أننا الواعون العارفون المصلحون، بل نحن في هذه اللحظة أكثر بؤسا منهم وجهلا، فإذا رحلنا سنرحل غير مأسوف علينا، وسيأتي غيرنا بكل تأكيد ليزرع ثم يأتي الحصاد حتما. نحن الخاسرون وحدنا إذا رحلنا أو انزوينا لأننا أردنا الحصاد لأنفسنا لا للناس الذين ندعي زورا أننا نريد مصلحتهم.