بدأ مصطلح "صفقة القرن" غامضا وعبّر لدى ظهوره للمرة الأولى عن فكرة أحادية أو تصور شديد العمومية وليس عن برنامج مكتمل واضح الملامح، الفكرة لم تكن جديدة بل دائما ما حاولت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تشكيل حل دائم أو طويل الأمد للقضية الفلسطينية، وبطبيعة الحال يستحيل تحقيق مشروع كهذا دون شراكة من دول الطوق، أي الدول العربية المحيطة جغرافيا بفلسطينالمحتلة والمرتبطة سياسيا وديموغرافيا وتاريخيا بالشعب الفلسطيني وقضيته، أما ترامب فمنذ كان مرشحا رئاسيا تلقف بعضا من الدعوات الرسمية العربية المتكررة لإقامة دولة فلسطينية كحل للقضية، في مقدمتها ما يُطلق عليه "مبادرة السلام العربية" أي "مبادرة الملك عبد الله" السعودية الصادرة عام 2002، التي تتضمن إنشاء دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام 1967، مع إعلان تم منذ سنوات للرئيس المصري الحالي عن تأييده لنفس التوجه، التقت الدعوات مع تصور إدارة ترامب لحل القضية الفلسطينية الذي تبلوّر بعد انتخابه ويتم الترويج له منذ فترة ب"إقامة تهدئة طويلة الأمد بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني". مؤخرا ظهرت العديد من المؤشرات والتسريبات والأنباء عن خطوات الجانب العربي والشق الذي سيكمله الكيان الصهيوني من صفقة القرن، كان في مقدمتها ما تحدثت عنه صحيفة جيروزاليم بوست وما بدر من تصريحات لأعضاء في الحكومة الصهيونية، والتحضير الفعلي والإعلامي لإعلان وبلورة التطبيع السعودي الصهيوني مع وجود حدود متاخمة مشتركة بين الكيانين بحيازة المملكة رسميا لجزيرتي تيران وصنافير المصريتين، وتصاعد لتضحية معسكر التبعية الخليجي بقطر تحقيقا لنبذ أي قوى غير حاسمة في معاداة إيران وفي إنهاء أي دور "منفرد" لحماس خارج المعسكر، فضلا عن تفاهمات جارية بين حماس والإمارات ممثلةً في محمد دحلان والمخابرات المصرية ممثِلة لمصر وإجراءات مصرية غير مألوفة لتخفيف الحصار عن غزة. خلاصة المؤشرات هي توجه صهيوني نحو قبول الاعتراف والتطبيع العربي الكاملَين ويشملان التخلي عن مسألة القدس، مع تصليب وتوسعة العداء العربي لإيران ودورها الإقليمي، وإقامة كيان فلسطيني جديد على حدود الرابع من يونيو 67 معترَف به صهيونيا، مع شكل من الإدارة السياسية والأمنية الأردنية للضفة الغربية والمصرية لغزة، ويتم تحصينه سياسيا بالتزامات دولية وصهيونية بناءً على ضمانات الأطراف العربية، وإنشاء هيكل خدمات أفضل وبنية تحتية متطورة في الضفة، مع إقامة ميناء ومطار في غزة بنفس الضمانة الإدارية المصرية مع إشراف دولي، وتوفير محطة كهرباء كبيرة للقطاع، مع فتح دائم لمعبر رفح يغذّي الأخير بالبضائع أو إقامة منطقة حرة لنفس الغرض، وإعادة تشكيل الجهاز الأمني الفلسطيني الداخلي بأكمله بناء على دمج القوى الأمنية لحماس التي ستنحصر فاعليتها نسبيا، بطبيعة الحال، في غزة مع إشراف مصري على مجمل إعادة التشكيل تلك، وتصفية ملف اللاجئين بمحاولة إعادتهم إلى الضفة وغزة أو إقامة آلية لتعويضهم. لا يمكن قراءة وفهم ما يُطلق عليه صفقة القرن دون مطالعة فلسفة المبادرة السعودية للسلام، فالمبادرة قامت على منح الكيان الصهيوني حزمة استراتيجية من اللوازم والمكاسب الحيوية التي تصون وجوده في المنطقة وتضفي عليه الشرعية الكاملة أولا وتضمن مصالحه ثانيا، في مقابل قبوله أو منحه للفلسطينيين "كيانا" يُفترَض أنه دولة، وعلى هذا الكيان احتواء الأزمة الفلسطينية في وجهها المزعج لمصالح ممالك ومشيخات الخليج والطبقات الحاكمة العربية التابعة للغرب عموما، أي إفرازها لجماهير وقوى معادية لأمريكا وأدواتها مِن كيان صهيوني أو كيانات عربية، فتستوعب الدولة الفلسطينية المرجوّة تلك التمدد السكاني الفلسطيني في الضفة الغربية وتقيم تمثيلا سياسيا جديدا لكل الفلسطينيين من خارج الكيان، وتُمنَح له شرعية دولية جديدة أكبر من تلك الممنوحة لسلطة فتح، على أساس من إنهاء المقاومة المسلحة وأي مشروع لرفض السيادة الصهيونية على أرض فلسطين فضلا عن تحريرها أو انتزاع ما يمكن منها. يسعى ترامب من خلال "صفقة القرن" في مبدئها إلى تطوير وتوسعة المبادرة السعودية بآلية قد يكون ناتجها النهائي مختلف من حيث الشكل عن المبادرة نفسها، مستندا إلى اعتبارها الخيار الحائز على موافقة "رسمية" من أغلب الأنظمة العربية ويبدي نحوه النظامان المصري والأردني حماسا كبيرا، ولكليهما دور رئيسي لدى إدارة ترامب بخصوص الشرق الأوسط منذ وصولها للحكم، خيار التحقت به حماس أيضا من حيث المبدأ بإعلانها في وثيقة مبادئها الأساسية والعامة الجديدة عن قبولها دولة فلسطينية على حدود عام 1967، فالمبادرة قدمت إطارا على قدر من الاكتمال من حيث المضمون والجوهر لتحقيق هدف ترامب نحو "سلام طويل الأمد" من عدة نواحٍ، أبرزها أن الشق الأول منها يتضمن تطبيعا سعوديا وعربيا شاملا ومعلنا مع الكيان الصهيوني وفقا لنصها، ومن هنا عمل ترامب على استغلال وتعميق هذا التوجه السعودي بتطويره انطلاقا من موافقة كامل معسكر التبعية العربي على هذا البند من مشروع تهدئة شاملة وطويلة الأمد في فلسطينالمحتلة، ثم وضع حزمة إغراءات للطرفين الصهيوني والفلسطيني، في مقدمتها التطبيع المباشر والأموال السعودية والخليجية وإمكانيات لاستثمارات مشتركة بين الطرفين بناءً على هذا التطبيع، فضلا عن دعم مالي وسياسي سعودي وإماراتي لأي سلطة فلسطينية توافق على وتشارك في مشروع الدولة الناشئة، وفي السياق، جاءت المؤشرات حول "عدم ممانعة" ترامب لإقامة دولة فلسطينية بشرط واحد هو موافقة الطرفين أي الكيان الصهيوني والطرف الفلسطيني، الذي قد يعتبِر الآن – بعد وثيقة حماس – أن دولة فلسطينية على حدود 1967 هي أرضية وطنية تجمع فريقي السلطة فتح وحماس ويمكن العمل عليها. من ناحية أخرى، يتم تحميل الشق الثاني للمبادرة ل"شركاء السلام العرب" وليس الكيان الصهيوني الذي سيختلف موقفه من الصفقة الحالية عن موقفه القديم من المبادرة السعودية قليلا، في المرة الأولى لم يكن ثمة ما يجبره في أرض الواقع الفلسطيني أولا ثم العربي على التراجع أو تقديم تنازلات في ملف فلسطين، بل العكس حدث، بأن جاء الطرف العربي ليعرض عليه مكاسب مجانية مقابل تنازل أصغر رفض تحقيقه بطبيعة الحال إذ رأى فيه تكلفة لم يكن مضطرا إليها، وكذلك في الصفقة الحالية لا يتراجع الكيان سوى خطوة ضيقة هي تخليه عن توسيع الاستيطان في الضفة الغربية، وهو مشروع بالغ الصعوبة عمليا من الأساس ومن صعوبته أزمة موضوعية في الضفة وهي معدل النمو السكاني الفلسطيني الأكبر من مثيله بالكيان، في مقابل تحقيق مكاسب ضخمة لمصلحته في احتواء الديموغرافيا الفلسطينية وإنهاء المقاومة المسلحة في نطاق فلسطين بالكامل واندماجه الكامل مع محيطه الحيوي، وكل ذلك ستتحمل مسؤوليته وتضمنه لصالحه أطراف عربية، الأمر الكفيل بأن تكون القضية الفلسطينية قضية عربية – عربية بالكامل لا يتحمل الكيان الصهيوني أيا من تداعياتها ومفاعيلها، وهذا بالتحديد هو مفهومه عن "السلام" حين يتحدث عنه.