عادت من جديد، أزمة اختفاء المحاليل الطبية من مستشفيات وزارة الصحة والجامعات، لتهدد حياة آلاف المرضى المترددين على عنابر هذه المنشآت الصحية يوميًا، وامتدت بدورها خلال الأيام الماضية إلى العيادات الخارجية والصيدليات العامة، على خلفية توقف عدد من الشركات والمصانع الإنتاجية عن التوريد المحلي. عدد كبير من المرضى المترددين على مستشفى الهلال الأحمر الواقعة في قلب القاهرة، يعانون الأمرّين في العلاج وإجراء العمليات الجراحية داخل المستشفى نتيجة غياب المحاليل الوريدية وامتناع الإدارة عن شراء الأهالي لها من الخارج خوفًا من تقديم شكاوي ضدهم، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الوجع والألم والمعاناة التي تسكن وجوه الجميع. الأهالي ينتظرون ذويهم خارج العنابر على أمل الشفاء ومغادرة المستشفى، والمرضى بدورهم يجلسون على أسِرّة بيضاء يتوجعون من شدة الألم في انتظار التشخيص والعلاج، لكن بعد تشخيص حالتهم ومعرفة أعراضها، يفاجأون بالأطباء يخبرونهم بنقص حاد في المحاليل الطبية داخل المستشفى، ما يتسبب في تأجيل عشرات العمليات الجراحية لحالات شديدة الخطورة، وفي الوقت ذاته، ترفض إدارة المستشفى شراء المرضى أو ذويهم أي محاليل طبية من الصيدليات الخارجية خوفًا من تقديم الشكاوي ضدهم. تأجيل العمليات "يعني لا بترحموا ولا بتسيبوا رحمة ربنا تنزل".. كلمات قالتها والدة المريض (حازم.م)، إحدى الحالات المرضية المترددة على المستشفى الحكومي الواقعة في قلب القاهرة، قادمين من أقصى مناطق الصعيد وتحديدا محافظة بني سويف بعدما أُصيب نجلها بقطع في الرباط الصليبي، وينتظر تدخلا جراحيا عاجلا داخل الهلال الأحمر، طال تأجيله حتى اقترب من العام. أكدت الأم المكلومة في زوجها من قبل نتيجة خطأ طبي "غلطة دكتور" تسببت في إصابته بالشلل لأكثر من 8 سنوات ثم وفاته، وبالتالي فإنها لم تجد بُدا من الاعتراف بأنها على استعداد لكتابة إقرار على نفسها أنها تشتريه على مسؤوليتها الخاصة، قائلة: "ابني نفسيته تعبت من بعدما أصيب وطلعوه من المدرسة الثانوية العسكرية، ومنذ شهر 5 اللي فات وأنا دايخة معاهم هنا في المستشفى، كل مرة يأجلوني، وكل مرة اضطر أجدد جواب تبادل الخدمة بين التأمين الصحي ومستشفيات وزارة الصحة، بسبب عدم وجود محاليل طبية توضع في جهاز المنظار وآخر مرة قالوا لي تعالوا يوم الثلاثاء القادم وهنعمل له العملية ومحدش عبرنا أو سأل فينا من ساعتها". وقف التوريد كان العُذر الذي يتردد على مسامع الأهالي أن الشركة الموردة توقفت عن توريد المحاليل الطبية للمستشفى، وعلى رأسها محاليل الجفاف والجلوكوز، وبالتالي يضطر الأهالي لشرائها من الخارج بأسعار باهظة، تتراوح ما بين 25 و50 جنيها، رغم أن سعرها الطبيعي لا يزيد على 6 و7 جنيهات فقط. أحد الأطباء بإدارة المستشفى، طلب عدم ذكر اسمه، أكد وجود نقص في المحاليل الطبية منذ فترة طويلة تزيد على 6 أشهر، خاصة بعد تعويم الجنيه وتحرير سعر صرف الدولار، قائلًا: "الأزمة دي مش في الهلال فقط، لكنها توجد في جميع المستشفيات الحكومية، لكن المستشفى هنا توفر المحاليل الطبية لحالات الطوارئ والعمليات الطارئة فقط". الأزمة ذاتها قائمة بصورة أكبر في عدد من المحافظات، وعلى رأسها، الغربية والقليوبية والشرقية والدقهلية، منذ أكثر من أسبوع نتيجة عدم توريد الشركات للمحاليل الطبية، فضلا عن نفاد كميات المحاليل الوريدية لدى شركات التوزيع، وهناك الأزمة لم تعد قاصرة على المستشفيات الحكومية فحسب، بل امتدت لتشمل العيادات الخارجية والصيدليات وبعض المستشفيات الخاصة. إغلاق المصانع في الوقت ذاته، لا تتوافر المحاليل الطبية بالصيدليات الخارجية أيضا بالشكل الكافي نتيجة ما ذكره الدكتور يسري الشطيري، عضو مجلس نقابة الصيادلة، الذي أكد أن وزارة الصحة هي المسؤول الأول عن استمرار أزمة نقص المحاليل الطبية، خاصة بعد إغلاق الأخيرة عدد من شركات الأدوية المنتجة ما يقرب من 68% من احتياجات السوق من المحاليل الوريدية. وأضاف أن الأزمة بدأت منذ أكتوبر 2015 عقب إغلاق وزارة الصحة لمصنع "المتحدون فارما" لصناعة الأدوية والمستلزمات الطبية ومستحضرات التجميل بعد وجود مشاكل في محلول الجفاف الخاص بها وانتهاء صلاحيته، ما تسبب في وفاة 6 أطفال من محافظة بني سويف. ولا تنفي الشركتين المنتجتين للمحاليل الطبية "النصر للكيماويات الدوائية"، "مصر أوتوسوكا للمستحضرات الطبية" ووكيلها "مالتي فارما"، احتياجات المرضى في مختلف المستشفيات في ظل لجوئهم إلى تصدير الكميات الأكبر إلى الخارج. بحسب بيانات وزارة الصحة، فإن حجم استهلاك السوق من المحاليل الطبية في العام، يبلغ نحو 120 مليون زجاجة، الجزء الأكبر منها يتم إنتاجه في 3 شركات مصرية، على رأسها شركة (المتحدون) التي كانت توزع نحو 50 مليون زجاجة، ونحو 40 مليون زجاجة أخرى من إنتاج شركتي النصر والنيل التابعتين للشركة القابضة للصناعات الدوائية، والنسبة المتبقية من المحاليل الطبية، توزع على شركة مصر أوتسوكا وعدد من الشركات الدوائية الأخرى، فضلا عن استيراد ما يقرب من 350 ألف زجاجة محاليل من الخارج. تواصلنا هاتفيًا مع شركة مصر أوتسوكا للمستحضرات الطبية للرد على أسباب توقفهم عن توريد المحاليل الطبية للمستشفيات العامة والموزعين المعتمدين واعتمادهم على تصدير النسبة الأكبر من الإنتاج، فأعلنت الشركة أن مصانعهم تعمل بكامل طاقاتها دون توقف وكذلك طرق التوزيع لم تتغير لتلبية احتياجات المرضى. وأرجع الدكتور مدحت شريف، أحد المسؤولين عن التوزيع بالشركة، سبب الأزمة إلى توقف المصانع الأخرى عن الإنتاج وانخفاض إنتاج بعضهم في الوقت الحالي. 550 جنيها.. تسعيرة الكرتونة في السوق السوداء من جانبها، رصدت "البديل" أسعار عدد من المحاليل الطبية المختفية داخل مستشفيات وزارتي الصحة والتعليم العالي، التي شهدت ارتفاعًا كبيرًا في أسعارها منذ قرار البنك المركزي بتحرير سعر صرف الدولار في نوفمبر الماضي، التي ارتفعت بنسبة 60% ووصل سعر محلول "رينجر" والجلوكوز إلى 7 جنيهات بعد أن كان لا يتجاوز 3 جنيهات، وكذلك أسعار عدد من المحاليل الأخرى، بلغت 60 جنيهًا حتى وصل سعر الكرتونة (24 زجاجة) إلى 550 و600 جنيه في بعض الأماكن والصيدليات الخارجية بدلا من 80 جنيها. وفي ظل تعهد وزارة الصحة بتوفير مايقرب من مليون و200 ألف زجاجة محاليل طبية عقب الأزمة الأخيرة مع مصنع "المتحدون" الذي يستحوذ على حصة كبيرة من الإنتاج والتوزيع، إلا أن المحاليل ماتزال مختفية ولا وجود لها إلا في السوق السوداء، ما يهدد حياة المرضى بصورة بالغة. وأوضح الدكتور خالد مجاهد، المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة، أن مخزون مصر من المحاليل الطبية يغطي احتياجات السوق بزيادة 800 ألف زجاجة عن حاجتها الفعلية من إجمالي 9 ملايين عبوة يتم إنتاجها شهريًا، ونفى مجاهد وجود أزمة في المحاليل الطبية داخل مستشفيات وزارة الصحة في المحافظات، قائلًا: "يوجد أرصدة كبيرة من المحاليل في مختلف مديريات الصحة هناك تكفي 3 أشهر أخرى". حظر التصدير بأمر "الصحة" وأكدت الدكتورة رشا زيادة، رئيس الإدارة المركزية لشؤون الصيدلة، تشديد الوزارة على جميع الشركات والمصانع الإنتاجية بتصدير أي كميات مُنتجة من المحاليل الطبية إلا بعد توفير احتياجات السوق المحلي منها. وأضافت أن الإدارة المركزية لا تمنح تلك الشركات الموافقة على إذونات التصدير إلا بعد التأكد أولا من مخزون السوق المحلي منها؛ لضمان توفيرها بصورة دورية ومواجهة نواقص السوق من المستحضرات الطبية اللازمة للمرضى.