في ليلة "أغسطسية" حارة، وعلى بُعد ساعات قليلة من وقفة عرفات، كان نادي الصيد بالإسكندرية مكاناً رطباً يليق بحشد ضخم من رموز مجتمع الثغر، لاستضافة ندوة ساخنة عنوانها "دور الإعلام في تاريخ الشعوب"، كان متحدثاها الدكتور محمود بكري، رئيس مجلس إدارة الأسبوع، والكاتب الصحفي طارق إسماعيل، نائب رئيس تحرير الأهرام. رحب المحاسب مختار الحبشي، نائب رئيس النادي، بالضيفين الكبيرين، معرباً عن سعادته لاختيارهما حرم النادي السكندري العريق ليكون أرض الملتقى الفكري الذي يناقش أحد أهم الموضوعات التي تشغل الرأي العام في الآونة الأخيرة، خاصة في ظل الحرب الضروس التي يشنها أهل الشر من أجل بث الشائعات التي تنهش في عقول المصريين، وسبل التصدى لها، ومواجهتها بالحقائق. في البداية، وصف الدكتور محمود بكري، الإعلام، بأنه أحد أخطر الأسلحة المستخدمة في الحروب السياسية، وسط المتغيرات الحديثة التي يشهدها العالم، من تقنيات ووسائل تواصل اجتماعي، تحولت معها الشبكة العنكبوتية، الإنترنت، إلى أذرع أخطبوطية تسيطر على عقول الناس، دون فلاتر موثقة يمكنها فرز طوفان المعلومات المتدفق من كل ارجاء الدنيا، بمجرد "ضغطة رز". وعاد "بكري" بأذهان الحاضرين، إلى زمن كان فيه عدد قليل من المصريين، ينزلون من بيوتهم سعياً وراء صحيفة يشترونها ببضعة قروش، للاطلاع على أخبار البلاد، ومعرفة ما يجري من أحداث في اليوم التالي لوقوعها، في الوقت الذي أصبحت فيه المعلومة تستقل "صاروخاً بعيد المدى"، يمكنه التنقل في "فمتو ثانية" بين بلاد الصين وأ مريكا إلى الشرق الأوسط، ونحن نجلس في غرفة مكيفة أمام شاشة محمول لا يتجاوز حجمها بضع بوصات، باعتبار أن العالم كله أصبح يعيش سوياً في "قرية كونية". وحذر الكاتب الصحفي المرموق، من خطورة ما تبثه وسائل التواصل الاجتماعي، السوشيال ميديا، من أكاذيب وشائعات مسمومة، تستهدف "90%" منها تدمير الثوابت الوطنية، وهدم مؤسسات الدولة، وزعزعة أمنها واستقرارها، لخدمة أجندات خارجية تدفع ملايين الدولارات من أجل استكمال مسلسل السقوط الكبير للأمة العربية، عن طريق التأثير في عقول شباب الأمة، ودفعهم نحو أفكار التطرف والإرهاب، ضارباً مثالاً بتنظيم "داعش" الإرهابي، الذي استطاع تجنيد عشرات الآلاف من الشباب، عن طريق شبكة الإنترنت، من العديد من دول العالم، لتتجرع عشرات من دول أوروبا مرارة الإرهاب الدموي الآثم، في أشهر عواصم العالم الحديث، بايدي شباب مغرر به، تم تغييب عقله، وإيهامه بأن الجنة والحور العين في انتظاره فور تفجير نفسه وسط الابرياء. وشدد محمود بكري، على ضرورة مواجهة الفكر الإرهابي بالفكر الوسطي ذي الحجة والمنطق، ومخاطبة عقول الشباب لتحصينه من الفكر المتطرف، وتنمية وعيه وعقليته، وتجديد الخطاب الديني، وفق دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي، مدللاً على نجاح هذه المواجهة الفكرية في الماضي، بتجربة "مراجعات الجهاد" التي تمت في مطلع الثمانينيات، وكانت نتيجتها توبة آلاف من أعضاء تنظيم إرهابي كان يمارس القتل والإرهاب بلا هوادة. وطالب "بكري" بضرورة إنشاء قناة فضائية مصرية موجهة للأطفال، لتغذية عقولهم بالقيم النبيلة، وغرس مفاهيم التسامح والصدق والانتماء، وتعليمهم أصول الدين الوسطي السمح، بلا غلو أو تطرف، باعتبار هؤلاء الأطفال ذخيرة المستقبل، والجيل الذي سيواصل مسيرة الكفاح الوطني، ولحمايتهم من الوقوع في براثن الفكر الإرهابي المتطرف. وفي رؤية بانورامية حول أوضاع الإعلام المصري الحالي، انتقد تشتت الإعلاميين، كل في عزف منفرد، مطالباً بضرورة توحيد كافة الجهود، فيما يشبه سيمفونية عمل إعلامي جماعي وطني، يحقق استراتيجية الحفاظ على الدولة والهوية والفكر الوسطي المستنير، حتى لا يترك المشاهد فريسة للسموم التي تبثها القنوات الفضائية المعادية، التي تبث من قطر وتركيا، وبعض عواصم العالمية، والتي يتجاوز عددها قرابة "18" قناة فضائية، تحاول خداع عقول المصريين من البسطاء تحت خط الجهل والأمية، وتستمر في تشويه الوطن، والطعن في ثوابت الأمة. ومن جانبه، أكد الكاتب الصحفي الكبير طارق إسماعيل، أن المواجهات الأمنية ضرورة للقضاء على العناصر الإرهابية المنتشرة، خاصة في مسرح العمليات على أرض سيناء، ولكن تبقى المواجهة الأهم، وهي المواجهة الفكرية، للقضاء على الإرهاب كظاهرة متفشية في العالم، والتي تختبيء تحت عباءات الصور المغلوطة للدين الإسلامي، والتفسيرات المغرضة لبعض آيات القرآن، والأحاديث المنسوبة، زوراً، للرسول الكريم، لإيهام الشباب بأن القتل والتدمير وسيلة لدخول الجنة وإحياء ما يسمى ب"الخلافة الإسلامية المزعومة". ووصف نائب رئيس تحرير الأهرام، المواجهة الفكرية، بالسلاح الأنجح، خاصة مع تناقضه مع الإرهاب الذي يعتمد على مباديء "السمع الطاعة وعدم النقاش أو المجادلة"، مطالباً كافة مؤسسات الدولة بالقيام بدورها في الخدمة المجتمعية، وتحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي، باعتباره أهم ملامح الدين الذي يحقق التوابط بين أبناء الوطن الواحد، ويعمق شعور المواطنين بالانتماء، مشيداً بتجربة نادي "الأوليمبي" الرائدة بإنشاء مسرح لنشر الفكر المستنير، حيث لا يمكن تخيل أن فناناً حقيقياً أو أديباً مبدعاً يتبنى أفكاراً إرهابية سوداء. وانتقد "إسماعيل" الدور السلبي الذي لعبه الفن المصري، منذ بضع سنوات، بنشر ثقافة الانحراف، عن طريق نموذج النجاح في المجتمع، تحت مسمى "الأسطورة"، لمحمد رمضان، الذي لم تفلح مجهوداته العلمية في تحقيق طموحاته، وإنما بعد اتجاره في الخدرات والسلاح، أصبحت احلامه في متناول يديه، مما يهدم قيمة العمل والكفاح الشريف في عقول المشاهدين، ويكرس القيم الدنيئة التي تنبع منها الشرور. كما انتقد الكاتب الصحفي الكبير، ما أسماه "تواكل" المصريين على الدولة لمواجهة الإرهاب وحدها، دون الاضطلاع بدور حقيقي في حماية الأمة من الأخطار المحدقة بها، وتراص الأندية ومراكز الشباب والمدارس والجامعات، لمواجهة العدو الغاشم الذي يضمر الشر للوطن، مطالباً بضرورة فحص ملفات "المدرسين" الذين نجحت جماعة الإخوان الإرهابية في التغلغل عن طريقها، على مدار عشرات السنين الماضية، بينما ظل المصريون مخدوعين بمقولة أن "الإخوان بتوع ربنا"، تاركين هذه الجماعة الدموية تتلاعب بعقول النشء والشباب، مما أدى لغرس بذور الإرهاب الأسود الذي يسعى لتدمير الوطن. وكان البرلماني المخضرم محمد البدرشيني، ضمن الحضور، وأثرى اللقاء بمداخلة قيمة، أكد خلالها أن الانتماء للوطن يستلزم علاقة أخذ وعطاء بين المواطن والدولة، فلابد أن يشعر بالاهتمام والرعاية، حتى يشعر تجاه وطنه بالانتماء، مطالباً بتحقيق العدل والمساواة، وإظهار الإعلام للآثار العظيمة التي تنتظر الأجيال الجديدة بعد إنشاء المشروعات العملاقة مثل الأنفاق والعاصمة الإدارية الجديدة، وغيرها من الإنجازات التي تحتاج لمزيد من التحليل والتوضيح امام الأجيال الجديدة من النشء والشباب، لتعميق الولاء والانتماء. وفي كلمة موجزة، أشار النائب طارق السيد، رئيس النادي الأوليمبي، غلى أن كل مصري تقريباً أصبح لديه "منصة إعلامية" عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، وحسابات الفيس بوك، وتويتر، وأنستجرام، وغيرها من الشبكات التفاعلية، خاصة مع وجود إحصائية تشير إلى وجود قرابة "60"مليون جهاز محمول في مصر، ضمن الهواتف الذكية، مما يضع مسؤولية على كل مصري، بضرورة تفنيد ودحض المعلومات المضللة التي تبثها الكتائب الإليكترونية لتنظيم الإخوان الإرهابي، عبر آلاف من الصفحات الوهمية.