كثيرة جدًا مشاهد العنف والقسوة التى انتشرت هذه الأيام وصارت تتصاعد كمًا وكيفًا بشكل أصبح مخيفًا، يهدد وجودنا وحياتنا وإنسانيتنا. سأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر بعض النماذج للاستدلال على واقع صرنا نعيشه بشكل يومى مرعب، فمشهد هذا الثور الذى ألقى به صاحبه فى حلبة الصراع ليطعنه اللاعبون بالسكاكين فى مشهد دامى وحشى لا يمت للآدمية بأية صلة، وحين كثرت وقست عليه الطعنات لمح صاحبه يقف مشجعًا خلف الحلبة فهرع إليه آملاً أن ينقذه، فى تلك اللحظة التقطت عدسات الصحفيين قبلة حب منحها الثور «الحيوان» لصاحبه «الإنسان» وهو لا يدرى أنه هو من ألقى به ليطعنه متسابقون أيضًا من بنى البشر حتى الموت دون الالتفات لآلامه وجراحه الغائرة ونزفه حتى الموت. هذا المشهد الذى كتبت عنه الصحف العالمية عنوانًا يقول «لا يوجد حيوان فى العالم أكثر وحشية من الإنسان» وهذه اللعبة التى تستحل مشاعر البشر فتنتزعها بمنتهى القسوة والتوحش والجبروت ليصبح الحيوان أكثر منا إنسانية ورقيًا ورحمة، فى لحظة موته لجأ الثور المطعون إلى صاحبه ومن فرط حبه له وهو ينازع الموت منحه قبلة الوداع وهو لا يدرى أنه من ألقى به فى حلبة الموت من أجل حفنة من المال! وفى مصر، بمدينة السادس من أكتوبر ثارت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة تنتقض هذا المشهد اللا إنسانى الذى قام مجموعة من الأشخاص قيل أنهم عمال فى أحد المساجد قاموا بتسميم وحرق كلبة وأطفالها الرضع، والتقطت كاميرات الموبايلات المشهد الدامى الذى تناقلته مواقع التواصل الاجتماعى ومنها وسائل الإعلام، وبينما نفى إمام المسجد الواقعة إلا أن صور الكلاب المحترقة انتشرت بشكل كبير، الأزمة الأكبر والأخطر فى الأمر أن يحدث هذا إلى جوار مسجد من مساجد «الرحمن» هذا الاسم الذى اختاره الله لنفسه لنذكره به صباح مساء «الرحمن الرحيم» واقعة أخرى حدثت منذ أعوام ولم يستطع العقل أن ينساها، حين اعتدى شاب على شاب آخر بالضرب وحين رأى الكلب صاحبه فى هذا المشهد تدخل للدفاع عنه فقام ب «عض» المعتدى دفاعًا عن صاحبه، فقام الشاب «المعضوض» برفع دعوى قضائية على صاحب الكلب فصدر حكم ضده بالحبس، وحتى يتنازل صاحب الحكم عن تنفيذه طلب من صاحب الكلب تسليم كلبه ليقتص منه، فإذا به يقيد كلبه فى عامود نور بالشارع ليأتى الشاب ومعه مجموعة من أصحابه فينهالوا عليه ضربًا بالعصا حتى أردوه قتيلاً أمام عينى صاحبه وأمام أهل الشارع وسكانه الذين وقفوا يراقبون المشهد ومعهم أطفالهم وصغارهم! من هنا الأكثر وفاءً من الآخر يا بنى البشر؟! وكيف توحشنا إلى هذه الدرجة وكيف وصلنا لها وما من أحد من كل هؤلاء الناس تدخل لإنقاذ الكلب ووقف المهزلة، هو روح خلقها الله تأكل وتشرب وتنام وتتكاثر كما البشر، لولا ميزنا الله بالعقل والإدراك والإنسانية، فكيف نتنازل عن إنسانيتنا ونغيب وعينا وعقولنا إلى هذه الدرجة من التوحش واللا إنسانية؟! الأمر لا علاقة له بشعارات الرفق بالحيوان ولو أنها عبارة تستحق التقدير، الأمر صار شعاره الآن «الرفق بالإنسان»والذى أصبح فى حاجة ملحة لأن تنشأ لأجله جمعيات ومؤسسات ترفع هذا الشعار وتعمل على الحد من هذه المشاهد التى باتت تغتال إنسانيتنا بمنتهى التوحش وتحولنا إلى كائن مسخ لا علاقة له لا بحيوان ولا بإنسان، تخلق فينا وفى أطفالنا وأولادنا -ممن يشاهدون ويتناقلون هذه المشاهد العبثية- دواعش صغيرة تكبر وتتوحش وتقسو، ويتحول منا من يتخطى مرحلة قتل حيوان بلا قوة ولا حيلة إلى قتل إنسان، فنقول قاتل، أو إرهاب حى فنقول بلطجي، أو تفجير مصلين فى مسجد أو كنيسة فنقول إرهابي، ومن ثم تضيع أوطان بلا ضمير أو رحمة، وتزول حضارات ويسرق تاريخ وتمحى من على وجه الأرض أمم كبيرة كانت ذات يوم أمة من البشر. علينا ألا نستهين بهذه المشاهد ليس من باب الرفاهية ولا من مبدأ الرفق بالحيوان بينما تتعالى أصواتًا تقول أن هناك آلاف الأطفال يقتلون وملايين البشر مشردين فى كل مكان سواء فى العراق أو سوريا وليبيا واليمن وفلسطين وغيرها، فمن اعتاد على القسوة ومارس التوحش فى أدنى صوره سيفعل أكثر من هذا بكثير بأقسى وأقصى الطرق، من استطاع أن يمسك بهرة فيسلخ جلدها حية ثم يلقيها فى النار، أو يسمم جروًا رضيعًا وأمه ويحرقهم، ومن ألقى بثوره الذى رباه فأحبه الثور إلى هذه الدرجة التى منحه فيها قبلة الوداع وهو من ألقاه وغدر به، من استطاع قلبه أم يفعل هذا يستطيع أن يبيع أهله ووطنه وأرضه وعرضه من أجل لا شىء. الأصل فى الخلق هو الرحمة، الأصل فى الحفاظ على الأوطان هو الرحمة، فمن يقفون على حدود البلاد ليحموا أرضها وأهلها وترابها إن لم تكن فى قلوبهم رحمة ما تحملوا كل هذا الخطر والعناء ليرحموا أهلهم ووطنهم ويحافظوا عليه من الطغاة المتربصين بنا، الأصل فى تماسك المجتمعات هو الرحمة، الأصل فى استمرار الحياة هو الرحمة، و.. الأصل فى زوال البشرية سيكون غياب هذه الرحمة، لسنا بحاجة الآن لجمعيات الرفق بالحيوان أكثر من حاجتنا لجمعيات الرفق بالإنسان لحماية الكائن البشرى من هذا التوحش المجنون الذى يضرب فى صدورنا وقلوبنا بقسوة متناهية، مهمتنا جميعًا الآن استعادة مشاعر الرحمة بيننا لنحافظ على تلك الفطرة التى فطرنا الله عليها من التشوه والمسخ، نحافظ على إنسانيتنا ووجودنا وأوطاننا.