حين تقرر الاضراب عن الطعام داخل ليمان طرة في اكتوبر من العام 1981، كنا قررنا كمعتقلين داخل الليمان أن يبدأ الاضراب عن الطعام بأربعة أفراد فقط.. حاولت الانضمام إلي فريق المضربين.. لكن شقيقي 'مصطفي' أصر أن يكون هو البادئ بالاضراب عن الطعام وأن انتظر أنا لمرحلة لاحقة.. لم أقتنع بما قاله.. وحاول كلانا أن يكون له فضل السبق في المشاركة، ليجنب الآخر متاعب الاضراب عن الطعام.. ولكن بعد أخذ وعطاء.. وجدل حاد.. قال 'مصطفي' أمام الجميع: 'إنني أنا الاكبر في السن ولنلتزم بهذه القاعدة لأكون أنا المشارك في الاضراب من بدايته'. كان معني الدخول في الاضراب عن الطعام أن ينتقل المضرب عن الطعام من زنزانته بعنبر '4' إلي زنزانة أخري داخل الليمان في عنبر يطلق عليه 'عنبر التأديب'.. هناك يودع المضربون عن الطعام، حيث يمنع عنهم الأكل، ولا يسمح لهم إلا بشرب المياه فقط.. انتقل 'مصطفي' حاملاً معه بطانيته.. في هذا الوقت من الشتاء حيث كانت الأجواء قارسة البرودة.. وانتقل معه الزملاء المعتقلون الذين قرروا المشاركة في الاضراب عن الطعام منذ بدايته. وعلي مدي الايام التالية رحنا نودع كل يوم مجموعة من الزملاء المعتقلين والذين انخرطوا في حملة الاضراب عن الطعام لمواجهة تعسف ادارة السجن.. حيث راح عددنا في الزنازين والعنبر يتناقص بشكل كبير.. بينما راح العدد يتزايد في عنبر التأديب حيث المضربون عن الطعام.. انقطعت أخبارهم عنا.. ولم أعد أعرف شيئاً عن شقيقي 'مصطفي' وأحواله المعيشية والصحية داخل عنبر التأديب.. ولا أخفي أن قلقاً شديداً اعتراني علي أحواله.. لكن الاصرار علي الموقف في مواجهة تعسف الإدارة كان حافزاً لنا جميعاً علي الصمود حتي تحقيق كل مطالبنا. كنا نودع المضربين عن الطعام بترديد الأغاني، والأناشيد الوطنية.. وعلي مدي ثلاثة عشر يوماً من الاضراب عن الطعام اختفت وجوه عديدة من زملائنا المعتقلين.. وهو مادفع إدارة السجن إلي محاولة التفاهم معنا بعد أن انتقلت النيابة إلي داخل ليمان طرة لتسأل المضربين عن أسباب اضرابهم عن الطعام وذلك وفق القانون الذي يحتم علي النيابة الانتقال إلي السجن والليمان لسؤال المضربين.. رحنا من جانبنا نؤكد للضباط الذين التقونا وتحاوروا معنا أننا مصممون علي مواقفنا ولن نتراجع قبل أن يستجيبوا لمطالبنا في فتح أبواب الزيارة للأسر والعائلات.. والسماح بدخول المأكولات من الأهالي.. وحقنا في الاطلاع علي الصحف أو علي الأقل معرفة ما يدور في الخارج. وبعد مفاوضات شاقة استجابت إدارة السجن لبعض المطالب.. وخاصة إدخال المأكولات من الخارج.. غير أنها رفضت العديد من المطالب الأخري ومن بينها السماح بالزيارة داخل السجن.. لكننا وجدنا وسائل أخري في التواصل مع أهلنا في الخارج عبر رسائل خاصة كنا نبعث بها مع شاويش العنبر 'الصول سيد' والذي كان يحمل الرسائل سراً إلي أسرنا ثم يأتي لنا بالرد ليطمئننا عليهم.. وكانت الرسالة الواحدة تكلف الفرد منا عشرة جنيهات تكاليف المواصلات اللازمة للشاويش 'سيد' أو من ينيبه في إرسال الرسالة وإحضار الرد عليها. حين انتهي الاضراب عن الطعام.. وتقرر عودة المضربين إلي زنازينهم من عنبر التأديب.. كانت الساعة نحو الرابعة والنصف عصراً.. كانت الزنازين مغلقة علينا.. وقفت عند شراعة الزنزانة.. أترقب وصول شقيقي 'مصطفي' ضمن الزملاء الذين انهوا إضرابهم عن الطعام بعد ثلاثة عشر يوماً من الاضراب المتواصل.. بعد لحظات من الترقب جاءت أصواتهم الضعيفة تغني وتنشد للوطن.. حاولت التركيز لمعرفة شقيقي 'مصطفي' من بينهم.. وكم كان مثيراً أن تحول جسده إلي ما يشبه 'عود القصب' بعد أن فقد جل وزنه خلال فترة الاضراب عن الطعام.. كان يحمل البطانية التي ذهب بها إلي الاضراب عن الطعام.. ما أن لمحته حتي رحت أهتف وأنا أنادي علي اسمه.. فأجابني علي الفور.. وماهي إلا لحظات حتي تم فتح باب الزنزانة لإدخاله.. وكان لقاؤنا حاراً بعد أن افترقنا لثلاثة عشر يوماً بالتمام والكمال. كانت أيام صعبة.. لكنها عبرت عن هذه القناعة التامة بضرورة الصمود والمواجهة حتي نحصل علي حقوقنا.. وقد كان.. وإلي الغد