يبدو الموقف الذي تمر به الثورة المصرية العظيمة بعد شهر من اندلاعها وأكثر من أسبوعين علي خروج رئيس النظام السابق من منصبه، شديد الدقة والحساسية في مواجهة تطورات وتغيرات كثيرة علي مختلف المستويات في المجتمع والدولة المصريين. وفي قلب هذه التطورات والتغيرات السريعة المتلاحقة يبرز الخطر الأكبر الذي بات الأكثر هيمنة علي الحوار العام في البلاد، وهو التخوف من نجاح قوي النظام المنهار في حشد طاقاتها وصفوفها للانقضاض علي الثورة لاستعادة نظامها القديم فيما يسمي تقليديا بالثورة المضادة. والحقيقة أن تحليل مكونات هذه الثورة المضادة ومدي خطورتها والسبل الأكثر كفاءة في مواجهتها، يستلزم أولا التطرق إلي طبيعة الثورة المصرية والخصائص الرئيسية التي اتسمت بها وذات العلاقة بهذه الثورة المضادة سواء من زاوية عوامل ظهورها أو من زاوية إمكانيات مواجهتها. اتسمت الثورة المصرية الشعبية الأولي من نوعها في التاريخ المصري الحديث بكونها قبل كل شيء مفاجئة بصورة لم تخطر ببال أكثر المحللين ولا الفاعلين السياسيين خيالا بل ولا حتي المجموعات الشبابية التي دعت إلي مظاهرات الخامس والعشرين من يناير والذين لم يكن هدف إسقاط نظام حسني مبارك وخلعه هو شخصيا من الرئاسة مطروحا عليهم بأي صورة من الصور في الساعات الأولي من اندلاع المظاهرات الاحتجاجية قبل أن تتحول إلي ثورة شعبية كاملة. اتسمت هذه الثورة من الناحية الثانية ارتباطا بالخاصية السابقة بأنها افتقدت حتي اللحظة وجود أحزاب أو تنظيمات كبري ذات طابع مركزي تقودها وتحرك جماهيرها الغاضبة الواسعة علي الرغم من وجود مجموعات وائتلافات شبابية متنوعة نشأ معظمها علي الفيس بوك وجماعة الإخوان المسلمين وبعض الأحزاب تحت التأسيس وأخري محظورة قانونا. أيضا اتسمت الثورة المصرية بأنها بدأت بشعارات وأهداف سياسية تدور كلها حول التغيير في طبيعة النظام الحاكم، ثم اتسع مجالها بانضمام فئات وطبقات اجتماعية أوسع وأكثر فقرا إلي صفوفها مما وسع من دائرة الشعارات والأهداف لتشمل المجالين الاجتماعي والاقتصادي، إلا أنها في الحالين لم تكن تحمل تفاصيل ولا برامج محددة بصورة زمنية لتحقيق هذه الأهداف والشعارات وتحويلها إلي مؤسسات وتشريعات وسياسات تشكل معا نظام الحكم الجديد المنشود بناؤه. هذه الخصائص الثلاث الرئيسية للثورة المصرية، وغيرها كثير بالطبع، هي الأكثر ارتباطا بظهور ما يسمي بالثورة المضادة، حيث إن فجائية الثورة وافتقادها القيادة التنظيمية واتساع شعاراتها وأهدافها دون امتلاك تصورات تفصيلية لتحقيقها، كانت هي البوابات الرئيسية التي بدأت الثورة المضادة في الدخول منها مرة أخري إلي المجال السياسي ومحاولة تعويق مسيرة الثورة وعرقلة خطواتها تمهيدا للانقلاب عليها والسعي لإعادة النظام القديم ولو بمسميات وأشخاص آخرين. فأركان النظام القديم، علي فساده واستبداده، يملكون القدرة علي مواجهة فجائية الثورة بما كان لديهم جاهزا من قبلها سواء في أجهزتهم الأمنية أو الحزبية من خطط وبدائل للتغلب علي أية محاولات لإسقاط نظامهم سواء عن طريق هبات وانتفاضات جماهيرية أو حركات انقلابية من داخل مؤسسات النظام. كذلك فهم يملكون القدرة التنظيمية التي تفتقدها الثورة، حيث تتوحد صفوفهم خلف قيادة حزبية يمثلها الحزب الوطني، وأخري أمنية تمثلها بعض أجهزة وزارة الداخلية وفي القلب منها أمن الدولة، وثالثة اجتماعية اقتصادية يمثلها كبار رجال الأعمال الذين قام النظام السابق عليهم وقامت عليه مصالحهم الحيوية، ورابعة سياسية اجتماعية محلية يمثلها قيادات الحزب الحاكم والأجهزة التنفيذية المنتشرون في مختلف مدن وقري مصر. أيضا فهم يملكون في مواجهة أهداف الثورة وشعاراتها العامة تصورات تفصيلية لنظام سياسي اجتماعي اقتصادي كامل قام علي الفساد والاستبداد لعقود طويلة استقرت في هيئة مؤسسات وتشريعات وسياسات وجماعات مصالح وحتي عصابات نهب وبلطجة. بذلك يبدو واضحا حتي اللحظة أن نجاح ثورة المصريين في الإطاحة برأس النظام وبعض من أبرز أركانه والبدء في هدم أجزاء من قواعده وأعمدته لم يترافق بعد مع المهمة الثانية لأي ثورة مكتملة، وهي بناء قواعد وأعمدة نظام جديد يحل في النهاية محل القديم المنهار، وقد كان للخصائص الثلاث السابقة للثورة الدور الرئيسي في عدم البدء بصورة جادة وسريعة في أداء هذه المهمة الثانية. وقد بدت المفارقة واضحة في أن الثورة التي لم يكن الجيش طرفا فيها منذ البداية وإن مثل تدخله في اليوم الرابع لاندلاعها أحد العوامل الحاسمة لاستمرارها ونجاحها برفضه العلني التدخل العنيف ضدها، أضحي تنفيذ مطالبها سواء بهدم بقية أركان النظام القديم أو وضع قواعد جديدة للنظام القادم منوطا بهذا الجيش وبخاصة مجلسه الأعلي الذي أصبح مركز السلطة الفعلي والأكبر في البلاد. وبذلك ظلت الثورة في نفس الإطار 'المطلبي' الذي تعودت عليه الحالة المصرية المعارضة لسنوات طويلة، وإن كانت الإضافة الأبرز والأهم هي الدعوة للتجمع والتظاهر في ميدان التحرير بالقاهرة وبعض ميادين مدن مصرية أخري في أيام الجمعة لممارسة ضغوط إضافية علي المجلس الأعلي للقوات المسلحة لكي يستجيب أو يسارع في الاستجابة لبعض 'مطالب' الثورة سواء لاستكمال هدم النظام القديم أو تشكيل ملامح النظام الجديد. من هذه الفجوة الواسعة والخطيرة بدا واضحا أن عناصر الثورة المضادة راحت تتسرب وتعيد ترتيب صفوفها للانقضاض علي الثورة التي اتضح لهم أن ما تملكه حتي اللحظة لاستكمال مراحلها الرئيسية من الناحية التنظيمية والتصورات التفصيلية والأدوات العملية ليس كثيرا بالمقارنة مع ما يملكونه هم علي نفس الأصعدة. ومن هنا أيضا بدا واضحا أن عناصر هذه الثورة المضادة المتبقين والنافذين في مناطق كثيرة ومهمة من المجتمع والدولة راحوا يركزون هم أيضا جهودهم علي مركز السلطة الفعلي في البلاد، أي قيادة الجيش، لدفعها بطرق عديدة شملت العلاقات القديمة في جهاز الدولة وإخفاء والتلاعب في المعلومات الحساسة التي يسيطر عليها البعض منهم عن هذه القيادة وافتعال وتفجير صراعات وصدامات بل وتخريب في بعض القطاعات بهدف هيمنة حالة من الفوضي في البلاد علي الصعيد الاقتصادي والاجتماعي بما يدفع قيادة الجيش إلي التمهل والتباطؤ أحيانا في الاستجابة لمطالب الثورة وضرورات استكمال مراحلها. وحتي لا يظل التحليل وصفيا وينتقل إلي اقتراح تصورات عملية محددة يجب القيام بها بصورة عاجلة لمقاومة الثورة المضادة والاستكمال المنظم لمراحل الثورة الشعبية العظيمة، فإن الأمر يتطلب أولا تحديد المستويات التي يجب أن تجري فيها هذه المواجهة. والمستوي الأول والأبرز للثورة المضادة هو قاعدتها الاجتماعية الاقتصادية التي هي نفسها قاعدة النظام السابق، وهي تتشكل من حلف رجال الأعمال الواسع مع فئات واسعة أيضا من رجال الإدارة العليا والوسطي وعديد من القيادات والعناصر الأمنية، وهو حلف لا يزال يمسك بمقاليد الثروة والاقتصاد كما كانت تقريبا في ظل النظام السابق، ولم يتعرض حتي الآن سوي لضربات قانونية لبعض ممثليه دون أن يمتد الأمر إلي سياسات محددة وواضحة لتفكيك قدراته بصورة قانونية وإجرائية. من هنا فإن مهمة مزدوجة سريعة وعاجلة علي أبناء الثورة والحريصين عليها يجب أن تنجز فورا: الشق الأول منها أن تبدأ صياغة تصورات عملية في هيئة تشريعات وسياسات اقتصادية ومالية ونقابية يبدأ الأخذ بها في المرحلة الانتقالية لتحقيق هذا التفكيك، منها مثلا الأخذ بالضريبة التصاعدية واستعادة الأراضي المخصصة لبعض رجال الأعمال والتي لم تذهب للأغراض التي خصصت من أجلها ووضع أهداف تأشيرية للاقتصاد القومي يلتزم بها رجال الأعمال وتشكيل نقابات واتحادات عمالية في مؤسسات الأعمال الخاصة وإعادة تشكيل الاتحاد العام لعمال مصر، وغيرها. أما الشق الثاني فيتلخص في ضرورة تشكيل لجان متخصصة وفعالة للبحث في تفاصيل ووقائع قضايا ومستندات الفساد المالي والسياسي المرتبط بهذا الحلف وتقديمها فورا إلي جهات التحقيق المختصة والرأي العام المصري. أما المستوي الثاني للمواجهة مع الثورة المضادة فقد بدأ بالفعل، وهو انتخابات مجلسي البرلمان القادمة، والذي بدأ الحلف المشار إليه سابقا بقيادة كبار ومتوسطي قيادات الحزب الوطني في الاستعداد لها بطرق عديدة تقليدية باستخدام المال والعصبيات والبلطجية وأخري جديدة أبرزها ركوب موجة الثورة بتشكيل لجان ومشروعات أحزاب وجمعيات أهلية تزعم انتسابها لها وتسعي لتجميع الشباب الثوري والغاضب فيها علي مستوي دوائر الجمهورية كلها ومدنها الصغيرة والمتوسطة وحتي قراها أيضا. وتسعي الثورة المضادة علي هذا المستوي إلي استغلال حرية الانتخابات البرلمانية القادمة لكي يحصلوا فيها علي نسبة تجعلهم القوة الأكبر في البلاد بما يضعهم مرة أخري في قيادتها بصورة 'ديمقراطية' تضيع بعدها كل مكاسب الثورة بل والثورة نفسها، وذلك اعتمادا علي كثرة مرشحيهم ذوي الخبرة في دوائرهم وبالاستفادة من كل الإمكانيات المالية والأمنية والعنيفة التي يتشكل منها حلف الثورة المضادة. ولذلك فإن مواجهة هذا المستوي الخطير من الثورة المضادة تستلزم أربع خطوات محددة: الأولي أن يصبح التصويت بالرقم القومي مطلبا رئيسيا يستحق أن تفرد له إحدي جمع ميدان التحرير لأنه سيلغي إلي حد كبير إمكانية التزوير وسيدفع بأكثر من عشرة ملايين مصري جدد إلي الهيئة الناخبة. الثانية أن تشن حملة قومية متواصلة من شباب الثورة وأبنائها لدفع المصريين إلي ضرورة التصويت في تلك الانتخابات، وهو الأمر الذي سيضيف إلي التصويت الفعلي في الانتخابات السابقة والمتراوح بين 4 و5 ملايين أكثر من عشرين مليون صوت جديد إذا ما صوت المصريون بنسبة 50% فقط من هيئتهم الناخبة التي ستصل لنحو 50 مليون ناخب، وسيكون معظم هؤلاء من أنصار الثورة ومرشحيها. الثالثة أن تتشكل قائمة موحدة لمرشحي الثورة علي مستوي الجمهورية علي أن يبدأ تشكيلها من الدوائر وليس من المستوي المركزي بالقاهرة، بحيث يتم اختيار من يصلحون كمرشحين للثورة فيها قادرين علي النجاح بغض النظر عن ألوانهم السياسية، علي أن يتم التنسيق بين القوي السياسية حول نسب تمثيلها في تلك القائمة بعد استكمال الاختيارات المحلية والتي يجب أن ينشغل بها شباب الثورة طوال الفترة القادمة. أما الخطوة الرابعة فهي قرينة للخطوة السابقة وهي أن يكون شعار إنجاح مرشحي الثورة هو الوجه الأول لشعار آخر وهو إسقاط كل بقايا النظام المنهار في الانتخابات القادمة وتوصيل الحقيقة للمصريين جميعا بأن عودتهم مرة أخري ستعني القضاء علي المصالح العامة من الثورة وكل مصلحة خاصة لأي واحد أو واحدة منهم.