والتحول الضخم الذي يحدث دون سقوط نظام حكم معين لا يطلق عليه ثورة, لكنه يعتبر في هذه الحالة نوعا من التطور أو الارتقاء. كما أن الثورة تتضمن التزاما من قبل الثوريين بإحداث تغيرات جذرية في القوي المسيطرة علي شئون الدولة, وكذلك في بنية الحكم وأغراضه وأهدافه. وتعد الثورات الأمريكية عام1776, والفرنسية عام1789, والروسية عام1917, والصينية1949, والإيرانية عام1979, من أبرز الثورات في التاريخ. وفي هذا السياق, تشبه الثورات الداخلية في هذا البلد أو ذاك الكوارث الطبيعية مثل ثورة البراكين, والزلازل, والأعاصير وغيرها من مؤشرات غضب الطبيعة التي تسبب دمارا كبيرا للممتلكات والبشر. وتختلف الكوارث حسب نسبة السكان المحيطة بظاهرة طبيعية خطرة, فكثير من المجتمعات تعيش بالقرب من براكين لها تاريخ مدمر كما حدث في الهند واليابان, وفي هذه الحالة تتعايش معها كنوع من التأقلم. وقد تكون هذه المجتمعات بعيدة عن التأثيرات الحادة للظواهر الطبيعية والتغيرات المناخية, وإن كان سكان كوكب الأرض, بغض النظر عن موقعهم, باتوا يعانون من تلك الأخطار بدرجة أكبر من ذي قبل. وفي فترات سابقة, كان يستخدم الباحثون تعبيرات أخري مثل التمرد والعصيان والفتنة( بمعني الخروج علي الحاكم) وغيرها, وتتمثل الفوارق الرئيسية بين الثورة والمفاهيم الأخري تكمن في الأهداف الحقيقية التي تقف وراء تغيير السلطة القائمة. فالانقلاب لا يهدف إلا إلي الاستئثار بالسلطة وتحقيق مصالح محددة من قبل القائمين به, علي نحو ما حدث في ثورة يوليو1952 وثورة الفاتح من سبتمبر1969 في ليبيا وكذلك في دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية في النصف الثاني من القرن العشرين. أما الانتفاضة فهي حالة من التظاهر أو التمرد أو الاحتجاج العنيف دون أن تتمكن من تحقيق الأهداف التي تسعي إليها بسبب قهر السلطة لها وشدة العنف التي تتبعها في التعامل معها, وهنا لا يمكن أن نطلق عليها مفهوم ثورة رغم أنها قد تحدث بعض التغيير, لكن المفهوم الأكثر تعبيرا عنها هو حركة أو انتفاضة لأنها لم تغير في أسباب المعاناة ولم تفض عليها. أما الثورة فهدفها إحداث تغيير جذري في النظم والأوضاع, عبر عمل وحركة الشعب بأسره يستجمع قواه ليقوم باقتحام جميع العوائق والموانع التي تعترض طريقه لتجاوز الوضع القائم دفاعا عما يطلق عليه المبادئ أو العقيدة الثورية وصولا لتحقيق الغايات الفاضلة التي تريدها الأجيال القادمة. ولم تكن الثورة نتاج فرد أو فئة واحدة وإلا كانت تصادما مع الأغلبية وقيمة الثورة الحقيقية تقاس بمدي شعبيتها وبمدي ما تعبر عن الجماهير الواسعة ومدي ما تعبئه من قوي هذه الجماهير لإعادة صنع المستقبل وفرض إرادتها من خلال صياغة عقد اجتماعي وسياسي جديد بين الحكومة والشعب. ومن هنا تكون الثورة شعبية مثل الثورة الفرنسية عام1789 وثورات أوروبا الشرقية عام1989 وثورة أوكرانيا المعروفة بالثورة البرتقالية في نوفمبر2004 والثورة التونسية في يناير2011 والثورة المصرية في25 يناير2011, وتعد الأخيرة ثورة شعبية وليست انتفاضة شبابية كما ردد البعض في بداية اشتعالها, لأنها شملت النساء و الرجال والأطفال والشباب والشيوخ, المسلم والقبطي. وقد أحدثت هذه الثورة تغييرات إستراتيجية وتحولات كبري لا يمكن إنكارها. إن التيار السائد في الأدبيات العلمية يشير إلي أن الثورة- أي ثورة- تمر بدورة حياة معينة, علي النحو التالي: * مرحلة هدم أسس وبنية النظام القائم, حتي يمكن وصفها بالثورة الكاملة, لاسيما وأن هناك تخوفا لدي القائمين عليها من اعتبارها نصف ثورة. * مرحلة انتقال ما بين الوضع القديم المنتهي والوضع المبتغي الذي سوف يتم الشروع في بنائه, والتي تظهر خلالها محاولات من جانب البعض لسرقة ما توصلت إليه من نجاحات والبناء علي ما قدمته من تضحيات لتحقيق مصالح شخصية أو أهداف فئوية, سواء من جانب أحزاب سياسية أو تيارات سلفية أو قوي فكرية وتحاول ركوب الموجة رغم أنها لم تكن مشاركة بدرجة كافية أو حتي موجودة في لحظات النضال الأولي المرتبطة بهز أركان النظام القديم وخلخلته. وفي كثير من الأحيان, تسعي هذه القوي أو ذاك التيار إلي القيام بما يسمي بالثورة المضادة. * مرحلة بناء نظام جديد. وتتمثل ملامح هذه المرحلة في وضع أسس المرحلة الجديدة بما يتوافق مع الأوضاع التي خلقتها الثورة والأهداف التي طرحها الثوار والوعود التي نفذها المجلس العسكري للثوار. وفي بعض الأحيان, تتعثر الثورة في بناء أوضاع جديدة باعتبار أن الهدم أسهل من البناء بمراحل, حتي لا يتم إعادة إنتاج نفس النظم السياسية والدستورية والاقتصادية التي كانت قائمة في مراحل سابقة. ويعد تتويج نجاح الثورة مرهونا بمدي قدرة فئات المجتمع المختلفة, سواء حركات شبابية أو أحزاب سياسية أو نقابات مهنية أو مؤسسات إعلامية علي الاتفاق, وتجاوز الخلافات الشخصية وتحجيم الاحتجاجات الفئوية والتصدي للقائمين علي الثورات المضادة, بما يمهد لعبور آمن من المرحلة الانتقالية إلي المرحلة البنائية. إن هذا العبور يهدف إلي تأسيس شرعية جديدة قائمة علي سيادة حكم القانون, وميلاد دستور جديد, وإعادة الثقة في مؤسسات الدولة, وعلي رأسها السلطة القضائية, فضلا عن وحدة المطالب المجتمعية وعدم تجزئتها, وصون الوحدة الوطنية وعدم تمزقها. وفيما يلي إشارة سريعة إلي ثورتين, واحدة منهما بعيدة زمنا ومسافة وهي الثورة الفرنسية والأخري قريبة زمنا ومسافة لعلهما توضحان بعضا مما قدمنا له. الأولي هي الثورة الفرنسية التي انطلقت في14 يوليو1789, وذلك لأسباب اجتماعية وسياسية واقتصادية عديدة. فعلي الصعيد الاجتماعي عانت فرنسا من التمييز الطبقي, حيث انقسم المجتمع الفرنسي بشكل هرمي إلي ثلاث طبقات: الأولي, طبقة رجال الدين, والثانية طبقة الارستقراطيين الاقطاعيين, والثالثة طبقة العامة التي عانت بشدة من المضاعفات الناتجة عن السياسات الاقتصادية التي انتهجتها الدولة لمعالجة آثار الحروب التي دخلتها الدولة. وعلي الصعيد السياسي, تفشت ظواهر الاستبداد واحتكار الثروة, وتصاعد دور طبقة رجال الدين في الدولة. وعلي الصعيد الاقتصادي, أنتجت الحروب التي دخلتها الدولة أزمات اقتصادية عديدة لم تفلح الإجراءات التي اتخذتها الحكومات في تقليص حدتها. وعلي ضوء ذلك اندلعت الثورة في14 يوليو الذي يوافق يوم سقوط سجن الباستيل. وقد أنتجت هذه الثورة تداعيات مهمة علي الداخل والخارج, فعلي الصعيد الداخلي, تبنت الثورة الفرنسية عددا من المبادئ المهمة مثل التسامح والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والعدالة وحق تقرير المصير, حيث أصدرت في هذا السياق إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أنتج تأثيرات مهمة علي الفكر السياسي في فرنسا وأعطي زخما لقيم الحرية والاستقلال, كما عملت الحكومات المتعاقبة بعد نجاح الثورة الفرنسية علي إلغاء الملكية المطلقة والامتيازات الإقطاعية. وعلي الصعيد الخارجي, مثلت الثورة أحد المنعطفات المهمة التي أنتجت تداعيات قوية علي القارة الأوروبية بأكملها, فقد ساهمت في إحداث تغيير جذري في مختلف مناحي الحياة, وأنتجت تأثيرات علي التوجهات الفكرية والسياسية والاجتماعية في أوروبا, وأصبحت لها بصمات في كل المحاولات التي بذلتها شعوب القارة الأوروبية لإحداث تغييرات عميقة في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية في هذه البلدان علي النمط الفرنسي. والثانية في إيران, فقد كانت الثورة الإسلامية التي اندلعت في عام1979 مفاجأة للكثيرين سواء لجهة التغيير الكبير الذي أحدثته في داخل إيران وفي محيطها الإقليمي والدولي, أو لجهة وجود انطباعات, أو بالأحري مزاعم, توحي بأن نظام الشاه محمد رضا بهلوي كان محصنا ضد مثل هذه النوعية من الثورات. وثمة أسباب عديدة تفسر اندلاع هذه الثورة التي شاركت فيها تيارات يسارية وليبرالية ودينية, أهمها الاعتراض علي السياسات التي انتهجها الشاه داخليا وخارجيا, إلي جانب تفشي ظواهر الفساد واحتكار الثروة من قبل النخبة المقربة من الشاه, وتزايد حدة القمع من جانب جهاز السافاك, فضلا عن كبت الحريات مثل حرية الصحافة وتكوين الأحزاب السياسية, وتعثر عملية التنمية الاقتصادية رغم الموارد النفطية المتاحة التي تمتلكها الدولة, واتخاذ بعض الإجراءات التي أثارت استياء شعبيا لاسيما علي الصعيدين الاجتماعي والثقافي, إلي جانب تحالف الشاه مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل. والثورات بعد ذلك أنواع كثيرة, ولكن المهم ليس دوما حديث الثورة وحدها ولكن ما سوف يأتي بعدها, وهي قضية لا يحددها المؤرخون وإنما أصحاب الحكمة والعقل من الثوار. [email protected]