ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية الأسبوعية الدورية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس، مساء أمس الخميس، ديوان 'حين سار الغريب علي الماء' للدكتور ايهاب بسيسو. وقد صدر هذا الديوان- الذي يحمل غلافه الأول لوحة للفنان الفلسطيني حازم حرب- في العام 2014 عن دار الشروق للنشر والتوزيع في رام الله وعمّان. بدأ النقاش ابراهيم جوهر فقال: قسّم الشاعر 'إيهاب ياسر بسيسو' ديوانه الشعري الرابع 'حين سار الغريب علي الماء' إلي خمسة أقسام حمل كل قسم منها روحا من الغربة والضياع الباحث عن 'أناه'، ويظلّ الشاعر مشغولا بالبحث عن اسمه، ويحرص علي ألا تضيع لغته. يلفت الانتباه هذا الإصرار علي ضمير المتكلم 'أنا' في لغة الشاعر 'بسيسو' متوازيا مع ألفاظ الغربة وحالاتها ووجعها والاغتراب والضياع والأرق والكوابيس، والقهوة والمقهي والنادل والمطر والزجاج. 'أنا' الشاعر هنا ليست فردية ولا ذاتية بل هي 'أنا' القوم- المجموع. وهذا واضح من السياق العام وأحداث القصائد وصورها في بلاد لا تقيم كثير وزن لغريب جاءها باحثا عن هدفه الخاص. الغربة تطلّ من بين كلمات الشاعر، وكذا الوحدة والبحث عن لغة مشتركة. إنها تجربة التمسك بما يقود إلي 'أنا' الشاعر وقومه في التصدي لأي تحريف حتي ولو كان بالاسم 'أياب، أهاب، إيهاب' – قصيدة 'أشتاق لاسمي' صفحة18. اللغة عند الشاعر ليست مجرد رموز يعبّر بها القوم عن حاجاتهم ويتواصلون بها. إنها جزء من المكان وهويته، وهي اللغة الغائبة عن الوقت لذا يكتب الشاعر 'علّه يمنح الوقت لغته الغائبة'- صفحة 33. وتبرز 'الفراشة' ثيمة ومعني ورمزا، كما يحضر الموت والمقبرة والتابوت، وتحضر الذاكرة والوطن والطفولة. أما مشاعر الغربة ومطرها في بلاد الصقيع والبرد حيث لا معني للقهوة ولا الاسم فظلت حاضرة بقوة علي امتداد الأقسام الخمسة من الديوان. ألحّ الشاعر علي سؤال 'لماذا تكتب؟' ووزّع إجابته علي صفحات الديوان، وهي إجابات تستحق التوقف عند حدودها ودلالاتها ومكانتها في معجم الشاعر ورؤيته لوظيفة الكتابة ودور اللغة. في الصفحة 134 تكون الكتابة وسيلة للتصدي للفناء والموت، والكتابة فعل تحويل الموت إلي حياة، وهي سبيل التصدي للريح. لغة الشاعر تتجمل بالحركة وتتعطر بالحنين والمطر وهي ترسم صورها بخفة وهدوء وحياة، إنها صور حية فيها الحوار والحركة والرائحة واللون، فالشاعر يستخدم اللون الأبيض والرمادي والضباب ولون الورد ولون القهوة. الشاعر هنا يسير علي الماء بخفة ورشاقة وإصرار علي الحياة، يشكو غربته القاتلة ويحن إلي وطنه البعيد وطفولته الحاضرة. وقال جميل السلحوت: سيجد القارئ للديوان أنّ اللوحة تتناسب مع مضمون الديوان، لكن شاعرنا يضعنا أيضا أمام تساؤلات كبيرة يحملها اسم الدّيوان، فهل هناك انسان يسير علي الماء؟ وكيف يكون ذلك؟ والمتابع لمحتويات الديوان سيجده من خمسة فصول كلها تتحدث عن الغربة، وواضح أن الشاعر قد استوحي قصائده من غربته أثناء دراسته الجامعيّة في بريطانيا، مع التأكيد أن غربة الفلسطيني وبعده أو ابتعاده عن وطنه تختلف عن غربة أيّ انسان آخر، فالآخرون قد يختارون غربتهم بارادتهم في بحثهم عن حياة أفضل، أو في بحثهم عن مكان قد يجدون فيه تحقيق سعادتهم، فإن وجدوها أو لم يجدوها فإنهم يستطيعون العودة إلي أوطانهم الأصلية متي يشاؤون، علي عكس الفلسطينيّ الذي أجبر علي الغربة والاغتراب عن وطنه التاريخيّ، بسبب الهجمة الكولونيالية التي تستهدف أرضه، تماما مثلما تهدف إلي اقتلاعه من وطنه لإحلال غرباء مكانه. وحتي الفلسطيني المقيم علي تراب وطنه التاريخيّ، إذا ما اضطر إلي مغادرة وطنه مؤقتا لسبب ما كالتعليم أو العمل أو غيرها، فإنه يبقي قلقا لأنّه يخضع لشروط غير انسانيّة ولا مثيل لها في العالم، قد تحرمه من العودة إلي أحضان أسرته ووطنه. إضافة إلي قلقه المستمر علي ما يجري في وطنه أثناء غيابه. وشاعرنا عاش الغربة مرّتين، مرة كانسان انتقل من مسقط رأسه في غزّة الي بريطانيا للدراسة، ومرّة أخري كفلسطينيّ وطنه يتعرّض للذبح اليوميّ، لذا فإن معاناته وآلامه مزدوجة، ومن هنا جاءت لغته الشعرية النازفة والمثيرة للتساؤلات، لتعبّر عن صحراء التيه التي تهدّد بابتلاع الانسان الفلسطيني. وتزداد حيرة القارئ من خلال الكلمات المنتقاة لشاعرنا، والذي أجاد فيها العزف علي جماليات اللغة، لتكون من السّهل الممتنع، والذي يثير تساؤلات فكرية وفلسفية لا مفرّ لقارئها من أن يتمعنّها ويستمتع بها. أو تجبره لقراءتها مرّات أخري للبحث عن لآلئها المكنونة. وإذا كان من المستحيل حصر الابداع في قوالب معينة، فإن القارئ لديوان الشاعر إيهاب بسيسو سيتوقف أمام قصائد لا يمكن أن ينتبه لمضامينها غير مبدع ذي عين ثاقبة. إن قراءة سريعة للديوان لا تغني عن قراءته والتمتع بجمالاته، خصوصا وأنّه يشكل نموذجا لقصيدة النثر بما لها وبما عليها. أمّا نسب أديب حسين فقالت: الشاعر إيهاب بسيسو ابن مدينة غزة الذي انطلق الي انجلترا للدراسة الأكاديمية الجامعية، حاصل علي اللقب الثالث في الاعلام الدولي، ويعمل محاضرًا لهذه المادة في جامعة بير زيت، الي جانب عمله الناطق الرسمي باسم الحكومة. صدرت له ثلاثة دواوين، ونحن اليوم بصدد ديوانه الرابع 'حين سار الغريب علي الماء' عن دار الشروق. نجد في هذا الديوان رصد تجربة حياتية في الغربة، وكان قد أشار الشاعر في لقاء توقيع الديوان في متحف محمود درويش قبل شهر أنّه يكتب عن نفسه، ويعتبر الكتابة التي أتت بهذا الديوان نوع من العلاج من المسافة والمنفي والاغتراب الذي طال عشرين عامًا، بذا لا بدّ أنّ الشاعر استثمر تجربة غربته ليُقدمها في قوالب أدبية لغوية محكمة تحمل الكثير من الجمال. عنوان الديوان يبدأ بإشارة زمنية ثم بالفعل سار، هذا الفعل الذي يقوم به الغريب صاحب الملامح الباهتة، وخطوات السائر علي الماء تضيع، لا يبق لها أي أثرٍ أو وجود للغريب بين الغرباء الذين يحيا وسطهم. كما أنّ السير علي الماء هو أمر مستحيل ومعجزة لم يقدر عليها سوي السيد المسيح حين سار علي بحر الجليل، وتلك المعجزة زادت من تقبله وسط قومه الذين تعاملوا معه كالغريب، ليعرض الكثيرون عليه بعد هذه المعجزة مرضاهم سعيًا لإشفائهم وإيمانًا به. بذا وبسبب الاستحالة في المشي علي الماء، فنري اشارة بأنّ هذه الغربة لن تتبدد ولا يوجد ما يزيح ثقلها عن حاملها حتي تسقط عن المكان ويتماهي فيه. الغلاف هو صورة شاب يقف وسط حقيبة اشارة الي السفر، يظهر جسده دون وجهه، وفي هذه الصورة تعبير قوي لما أراد الشاعر من العنوان ومن الديوان، فالشاب دون ملامح تبقي في الذاكرة هو مجرد كائن موجود يحمل وزر حقيبته في الأمكنة ويختفي. يقوم الديوان علي حوار داخلي 'مونولوج' طويل وعميق، متجهًا الي سرد قصصي فهو يشبه الملحمة الي حد ما. ويمكن أن نعتبر هذا الديوان أقرب الي صنف أدبي حديث يقع تحت مسمي 'القصيدة الرواية' بحيث يتحرر هذا الصنف من شكلانية الشعر الصارمة، ويقصر من البناء القصصي الملحمي. ويحمل هذا الصنف الجوانب الشعرية المكثفة أكثر من الروائية السردية، لتطغي كفة الشعر. وهذا ما نشهده هنا فالديوان مقسم الي خمسة فصول، تتغير بعض الشيء رسالاتها وتتقدم كمبني قصصي من مقدمة وعُقد وحل، لا يمكننا فيه التعامل مع كل قصيدة أو مقطع علي أنّه حالة منفردة، فهذا لن يقودنا الي فهم متكامل للصورة التي أرادها الشاعر. تقوم القصائد علي شخصية رئيسية وهي الغريب أو الشاعر نفسه، نلحظ سيطرة اللون الرمادي علي أيام الشخصية ودورة المقاطع حول موضوع واحد، لكن بصور وتشابيه متجددة الأمر الذي لا يبعث الملل في نفس القارئ بل تدفعه أكثر نحو عالم الشخصية ليحيا أيامها ويومياتها وعراكها وصراعها الداخلي، هذا الصراع العميق في محاولة لكسر الحاجز لكنه يبقي فترة طويلة حبيس القارورة معلقا مشدودًا بحبال الذاكرة.. الي أن تأتي 'الشمس' وتمنح يومه بعض الألوان محملة بعطر مدينته حين يدرك انّها قادمة من هناك. وقال رفعت زيتون: أطلق شاعرنا العنان لهذه المسميات لتصول وتجول بين سطور تحدثت عن ذلك الغريب الذي حوّل الشاعر الماء له يابسة يسير عليها، ليخوض غموض التجربة والحيرة بين نسيانه وذاكرته. إيهاب بسيسو كان ذلك الغريب في حواريته الشعرية التي مالت إلي السّرد القصصي ربّما لأنه يحكي قصته مع البحث أو قصته مع حقيبة السفر، حتي وهو جالس علي مقعد في إحدي المقاهي، كان يلملم التفاصيل من حوله ليعيد ترتيبها في عالم آخر بعيد، ثمّ يعود إلينا بالقصيد. نجح الشاعر في سواد قصائده الأعظم في إدهاش القارئ ووضعه في مشهد الحدث، وكأنّ القارئ جزء من هذا الحدث أو أنّه هو ذاته الغريب بطل الرواية. الذات والهمّ العام: طغت الذات علي كثير من القصائد إلي حد بعيد، أحيانا كان يتجرد من ذاته ويتمثل بشرا آخر، وأحيانا يتوحد مع ذاته حدّ الخرافة ليفاجئ الصبح بأغنية عابرة عن جسد قد يولدُ وقد يشيخ وقد يتعب وقد يموت برصاصة ضلّت الطريق. وتساءلت لماذا استخدم كلمة الجسد وليس النفس خصوصا أن الجسد جسم بلا روح، فهل اعتبر الشاعر هذا الشيئ ميتا قبل الرصاصة علي اعتبار ما سيكون؟ أم علي اعتباره ميتا بكل حالاته حتي وهو حي؟ وقد ظننت في الصفحات المئة الأولي أن الذات هي الهمّ الأكبر لدي الشاعر ايهاب بسيسو إلي أن جاء بقصيدة ' مهاجرون'، ليفتح القريض علي مصراعيه علي الهمّ العام لفئة ما فتئنا نسمع عنها بين الحين والحين، فئة تركب موج الغموض ظنّا منها أن العسل ينتظرهم خلف ذلك البحر اللجيّ علي بعد نظرتي أمل، فإذا بأحلامهم تمسي طعاما لحوت جائع في قعر المحيط، ومن كان منهم ذو حظّ عظيم نزلت به السفينة إلي عالم وحشيّ مهنته الاستغلال وسمته الحرمان إلا من رحم ربي. هذه القصيدة أقصت فكرة الذاتية عن ذهني، بل وربما جعلتني أعيد التفكير بمعني الذات، فالذات جزء من الكلّ، وعندما يكتب الشاعر ذاته فإنما يتحدث باسم عائلته الكبري، كيف لا وقد كان هو أحد العابرين علي متن السفينة بين المهاجرين الغرباء، والفرق بينه وبينهم أنهم فقط لم ينتبهوا للقلم. فكانوا مادة للكتابة، ربما إيمانا منهم أنّ هناك من سيكتبهم بطريقة أدقّ وأفضل. عند قراءتي للديوان أردت أن أقارن بين بعض الجمل الشعرية والأفكار بين القصائد، حتي قادني ذلك إلي رؤية الديوان كأنه قصة وكل قصيدة فيه تحاكي مشهدا من مشاهد هذه القصّة أو الرواية.