عندما تتحدث إليهم تتخيل أنهم ارتقوا عن البشر بأفكارهم ونظرتهم لأنفسهم، يثقون فيها لأن ثقتهم في الله لا تنتهي. إنهم الأقزام وقصار القامة الذين يبلغ عددهم في مصر 75 ألف شخص وهو رقم يمثل ثلث أقزام العالم الذي يصل عددهم إلي 200 ألف وفق آخر إحصائية عالمية منذ 4 سنوات تقريبًا.. أحلامهم الصغيرة تقبع داخل أجسادهم الصغيرة حقا. ولكنك بمجرد الجلوس معهم تجد نفسك أمام قلوب إنسانية عملاقة بل تفوق معظم الأصحاء.. يستسلم بعضهم ويرتضي انتزاع ضحكات السخرية من ضآلة حجمهم في بعض الأعمال المسرحية التافهة مقابل الحصول علي 50 جنيها يقتاتون بها، في مجتمع لا يغضبون منه رغم أنه ظلمهم وتخلي عن حقوقهم. وقد أوضحت أحدث دراسة صادرة عن وحدة بحوث اقتصاديات التصنيع الغذائي، وشملت 121 ألف أسرة في 20 محافظة من محافظات مصر عن ظاهرة التقزم بعنوان 'النمط الغذائي للأسر المصرية'.. أن 23% من أطفال الأسر المصرية مصابون بالتقزم الناتج عن سوء التغذية، وأن الظاهرة تنتشر في الريف بنسبة 34% في الريف، و21% في الحضر، وفي الوجه القبلي بنسبة 38% وفي الوجه البحري بنسبة 22%، وأكدت الظاهرة أن سوء التغذية والحالة التعليمية تلعب دوراً كبيراً في هذه النسب. داخل شقة متواضعة يقع فيها مقر جمعية الاقزام المصرية بإحدي المناطق الشعبية الشهيرة برمل الإسكندرية بين منطقتي غبريال وفيكتوريا يقبع مكتب أكثر تواضعًا يجلس خلفه 'عصام شحاته' رئيس مجلس إدارة الجمعية ومؤسس أول نقابة للأقزام في مصر تم اشهارها نقابة مستقلة في مارس الماضي. بابتسامة عريضة تكشف عن تفاؤل بالحياة، استقبلني مؤكدا أن الجمعية التي تأسست وتم إشهارها في ديسمبر 2012 جاء بعد عناء ومحاولات عديدة منذ 12 عاما. وتعود القصة 'علي لسان مؤسس النقابة' إلي أوائل التسعينيات حينما سافرت إلي دولة الكويت مع عدد من أصدقائي الاقزام وعملت لمدة 6 سنوات بمطعم عالم الاقزام بمنطقة السالمية وحاولت تطبيق الفكرة في مصر ولكن الظروف المادية وقفت عائقا. يقول عصام: 'حصلت علي دبلوم تجارة وتقدمت للعمل بديوان محافظة الإسكندرية عام 2001' حتي ترقيت إلي سكرتارية وكيل وزارة بالضرائب العقارية حاليًا. ورغم أني لست قزماً ولكني قصير القامة لكني كنت أشعر بالمرارة التي يشعر بها الأقزام. وقد تعرفت علي شريكة حياتي في كواليس برنامج دنيا 'الأقزام' الذي كان يقدم علي القناة الخامسة بتليفزيون الإسكندرية وهي الآن مسئولة المرأة بالجمعية! التي قام أحد رجال الأعمال بالإسكندرية بالتبرع بالإيجار لمدة 6 أشهر منذ تأسيسها ثم سرعان ما اختفي ونحاول جاهدين تجميع مبلغ الإيجار بشكل ذاتي شهريًا. فروع الجمعية يضيف شحاتة: 'للجمعية فروع في عدد من المحافظات مثل بورسعيد وجنوب سيناء والإسماعيلية والقاهرة كما نتواصل مع محافظات أخري كالمنيا والشرقية والبحيرة والاقصر والمنصورة، ولكن للأسف لا توجد دعاية كافية' بسبب نقص التمويل، ففي الإسكندرية مثلًا يوجد أكثر من 2000 قزم من مجموع 75 ألف قزم في مصر، وللأسف لا يتواصل معنا منهم أكثر من 120 فقط، ولكننا تواصلنا مع لجنة الخمسين أثناء وضع الدستور الحالي ونجحنا في تضمين كلمة أقزام لأول مرة في الدستور المصري بل دساتير العالم وذلك في المادة 81 التي تقضي بالتزام الدولة برعاية ذوي الاحتياجات الخاصة والأقزام، وتمكنا بذلك من إدخال فئة الاقزام المهمشة ضمن المعاقين للحصول علي نفس حقوقهم في مصر نسبة 5% في والتأمين الصحي والسيارات المجهزة. والجمعية تهدف إلي مساعدة الأقزام لاستخراج كارنيه التأهيل المهني للأقزام، وتوفير فرص العمل اللازمة لهم والتأمين الصحي علي أسرهم وتبني مواهبهم والمساعدة في تحمل مصاريف التعليم كاملة واستخراج معاش مؤقت بالتأمينات والتعيينات والحق في الإسكان الاقتصادي، والوقوف علي حل مشاكل المواصلات.فنحن لا نستطيع صعود الأتوبيسات أو الجري وراء الميكروباصات. مطالب للرئيس شحاته يحمل مطالب الأقزام للرئيس بقوله: 'إننا نطالب الرئيس السيسي بأن يلتفت لمطالب الاقزام تلك الفئة المظلومة التي تعاني في صمت، فنحن حتي الآن لا توجد لنا ميزانية مالية من الدولة لان إشهار الجمعية لم يمض عليه اكثر من 3 سنوات وفق قانون الجمعيات الاهلية رغم اننا نحاول جاهدين توفير الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية حيث قمنا بتزويج 6 أعضاء بالجمعية، وتقوم المنطقة الشمالية العسكرية مشكورة بإمدادنا بالمواد الغذائية التي نحتاجها كل فترة. ويطالب شحاته السيسي بتعيين قزم في مجلس الشعب القادم ليتحدث باسمنا وكذلك تعيين قزم في المجلس القومي للمعاقين والمجالس المحلية بالمحافظات، كما نطالب بإصدار كارنيهات تأهيل مهني لنا أسوة بالمعاقين لنتمكن من الحصول علي حقوقنا في وسائل المواصلات ومعاش التضامن الاجتماعي ودخول الحدائق والمتنزهات العامة. مرفوض من النيابة العامة يلتقط طرف الحديث طارق جوهر عضو الجمعية 'محام' الذي يشكو الإهمال وعدم الوعي بهذه الفئة المهمشة في المجتمع الذي لا يعتبرنا أسوياء 'علي حد تعبيره' ولا يعتبرنا أيضًا معاقين ويحكي تجربته المريرة في محاولة ترخيص سيارة مجهزة استوردها علي حسابه وتمكن من ترخيصها ولكنه فوجئ بإدارة المرور ترفض تجديد الترخيص بدون إبداء أسباب ! يقول طارق: أنا خريج حقوق الإسكندرية دفعة 88 وحاصل علي تقدير جيد مرتفع ومن حقي الالتحاق بالنيابة العامة قانوناً ورغم اجتيازي كل الاختبارات فإنني فوجئت برفضي بسبب قصر قامتي، فاضطررت لفتح مكتب محاماة مستقل ولكنني أواجه صعوبات شديدة في ممارسة المهنة بسبب سوء الوعي المجتمعي. رغم أن والدتي كانت ناظرة مدرسة وعلمتني الوعي الكامل وأن الله خلقنا سواسية وأنني لست مخلوقا ناقصا لمجرد أني قزم بل إنني أفضل من غيري لأن الله اختصني بهذه النعمة دون غيري، وقدتعرفت علي زوجتي خلال ترددها علي مكتبي بشأن دعوي خاصة بأحد أفراد أسرتها وهي إنسانة طبيعية والحمد لله تزوجنا وأنجبنا أمير ومحمد وهما أصحاء طبيعيين والحمد لله. دموع الاقزام تلتقط طرف الحديث 'منال محروس 28 سنة' عاملة في مصنع ملابس قائلة: انضممت للجمعية من سنتين وقبلها كان مستحيل حد يقدر يجمعنا لأننا كأقزام نعاني 'استهزاء وسخافات الناس في الشارع، فأنا وأختي فقط أقزام رغم أن والدي ووالدتي وثلاثة أشقاء طبيعيين. وقد بدأت معاناتنا منذ صغرنا فكانت شقيقتي تذهب للمدرسة وهي صغيرة وتعود بالدموع والصراخ بسبب سخرية زميلاتها لم تكمل تعليمها بسبب سخريتهم منها لكونها من الاقزام، وعلي فكرة أنا تعبت جدا حتي تمكنت من الالتحاق بالعمل في مصنع الملابس بصعوبة شديدة'. ترخيص كشك !! وفي داخل الجمعية أيضا التقيت بأصغر قزم طوله لا يتعدي 80 سم، صعيدي نزح من أسيوط للإسكندرية من أجل لقمة العيش، اسمه إبراهيم محمد عبد الجواد قال والابتسامه لا تفارق وجهه: 'انا عمري 37 سنة أتيت للإسكندرية من 18 سنة، علي باب الله، أبيع بعض الأشياء البسيطة في الشوارع، ومتزوج من سيدة طبيعية تعرفت عليها عن طريق بعض الاصدقاء، ورزقني الله بطفلتين: يارا 4 سنوات، رضوي سنة، وهما ليستا من قصار القامة. معي شهادة تأهيل مهني وأطلب من محافظ الاسكندرية السماح إصدار ترخيص كشك لكي أتمكن من الانفاق علي أولادي'. أحسن صورة وبنفس الابتسامة الراضية يقول 'كامل جمعة' عضو الجمعية: إنه حاصل علي دبلوم تجارة من 30 سنة وعاني كثيرا في العمل حتي تمكن من الحصول علي فرصة في إحدي شركات القطاع الخاص، لكن ظروفه الجسدية لا تعينه أحيانا، ويرد بضحكة عالية: إن نظرات الناس لا تهمه لأنه واثق أن الله خلقه في أحسن صورة بل بالعكس انه يشفق علي من ينظر له باستخفاف !!.