تحتفل مصر هذه الأيام بذكري عطرة لأيامها المجيدة بعد مرور خمسون عام علي تأسيس إذاعة القرآن الكريم وهي الإذاعة المحببة والأكثر شعبية إلي قلوب ووجدان المصريين والكثير من أبناء الدول العربية والإسلامية، ويصادف بعد غد السبت الموافق التاسع والعشرين من مارس اليوم الذي تأسست فيه الإذاعة وبدأت صبيحة الأربعاء لسنة 1964 في بث إرسالها وكان هذا اليوم مشهود في تاريخ المصريين والأمة الإسلامية عندما تضافرت جهود المخلصين من علماء ورموز هذا الوطن وبأمر من الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله تم تأسيس الإذاعة، فكانت إضافة كبيرة إلي الإذاعة المصرية. يرجع تأسيس الإذاعة إلي شعور علماء الأزهر والأوقاف بانتشار نسخ مزيفة لتحريف معاني القرآن الأمر الذي أدي استنفار جهود العلماء من وزارة الأوقاف والشئون الاجتماعية والأزهر بانجاز تسجيل صوتي للقرآن المرتل برواية حفص عن عاصم والذي قام به المرحوم الجليل الشيخ محمود خليل الحصري وتم طبعه علي اسطوانات وتم توزيع نسخ منها علي المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي وجميع المراكز الإسلامية بالعالم مما اعتبره العلماء أول تجميع صوتي للقرآن الكريم بعد أو جمع كتابي له في عهد أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ورغم ذلك لم تكن تلك الوسيلة ناجزه وفعالة للقضاء علي ظاهرة تحريف القرآن مما استوجب أن يقوم أهل الفضل في مصر بأخذ القرار من جانب وزارة الثقافة والإرشاد القومي التي كان يرأسها الإعلامي الفاضل الدكتور عبد القادر حاتم بعد موافقة الرئيس جمال عبد الناصر الذي أعطي للإسلام ولمصر ما لا يمكن أن يعطيه الإخوان إلي أن تقوم الساعة، وعندها استشرق المصريون صباحهم بسماع القرآن المرتل لأكبر القراء المصريين وعلي رأسهم الشيخ محمود الحصري في بث يومي لمدة 14 ساعة، ثم أضيف لها عام 1966 برامج دينية بنسبة 5% من نسبة الإرسال بتوجيه من الأستاذ محمود إسماعيل، وفي عام 1967 تم تقديم القرآن المجود أيضا بأصوات مشاهير القراء بمصر وأصبح للإذاعة جمهورها الكبير داخل مصر وخارجها، ثم زاد انتشارها بعد حرب أكتوبر 1973 وزاد إرسالها إلي 19 ساعة حتي وصلت تدريجيا لأن تعمل علي مدار اليوم كله وبدأت في تنويع علومها الدينية الفقهية عبر برامج مختلفة لأكبر العلماء والإذاعيين حتي دخلت إلي وجدان المصريين الذين اعتبروها قبلتهم لمعرفة مواقيت الصلاة ومعرفة أهلة الشهور العربية والمناسبات الدينية ولياليها الجميلة التي ظلت تحييها في كل المناسبات عبر التسجيلات الخارجية كصلاة الفجر والكثير من المناسبات الدينية في أشهر المساجد المقامة في أشهر الأحياء في القاهرة والمدن المصرية من خلال تقليد محبب إلي نفوس المصريين كبداية الاحتفالات بقراءة القرآن لأشهر مقرئي الإذاعة ثم إتباعها بالابتهالات والتواشيح الدينية وتقديم الكلمات الدينية من جانب أكبر العلماء عبر كل مناسبة. تداول علي رئاستها الكثير من أشهر العلماء والمذيعين ومنهم الدكتور كامل البوهي، وبعده تتابعت الرئاسة لعادل القاضي، ومحمد الشناوي، وهاجر سعد الدين وصولا إلي إبراهيم مجتهد وهو الرئيس الحالي للإذاعة، ويرجع أيضا إلي الدكتور كامل البوهي الذي تخرج من كلية الآداب عام 1953 الفضل في إنشاء تلك الإذاعة وهو الذي جمع بين الدراسة الدينية والدراسة الأكاديمية عندما وجد في الإسلام والسنة معا الحل والتفسير لكل قضايا العصر، ويعتبر أول من تحدث في الإسلام السياسي، فقد قام بتدريس الشريعة بكلية الدراسات الإسلامية وكلية اللغة العربية ثم اتجه للعمل الاجتماعي وخدمة الوطن حتي جاءته الفكرة لإنشاء إذاعة القرآن الكريم ولأول مرة في تاريخ المسلمين عندما قال كيف يكون لأم كلثوم إذاعة ولا يكون للقرآن الكريم إذاعة مصرية خاصة به فبدأ بالتبرع من ماله الخاص مع أجلاء آخرين لتأسيس الإذاعة ومنهم العالم الجليل الشيخ عبد الحليم محمود، وظل البوهي يعمل طوال حياته بالإذاعة لخدمة الإسلام والدعوة إلي الله ورسوله بشكل إيجابي، ومن برامجه الشهيرة رحمه الله ' يا أمة الإسلام ' ' في نور الله ' ' في روضة الرسول ' وغيرها من البرامج، كما تبني إظهار الكثير من الشيوخ والمقرئين للإذاعة حتي ذاع صيتهم في كل بلاد العالم ومنهم الشيخ مصطفي إسماعيل، ومن أروع ما عرفته الإذاعة أيضا هو عميد الإذاعيين عزت حرك الذي يعتبر بكل ما أنجزه أحد الأعمدة المؤسسة التي أدت إلي نجاح الإذاعة ومن برامجه الشهيرة حلقات بريد الإسلام، وإلي جانب تلك الأمثلة نذكر علي سبيل المثال وليس الحصر لكل المبدعين والفنيين بتلك الإذاعة الدكتورة هاجر سعد الدين التي رأست إذاعة القرآن بعد أعمالها الفريدة للبرنامج العام فقدمت العديد من البرامج الدينية المتعلقة ببرامج الأسرة والمجتمع الإسلامي. عرفت إذاعة القرآن الكريم بمصر باعتبارها أقدم إذاعة قرآنية بالعالم الكثير من الدرر الفريدة من مشايخنا وقراؤنا العظام الذين قدموا للقرآن ما لم يقدمه غيره من خلال قراءاتهم المتميزة والتي تنتمي إلي مدارس أدائية مختلفة اختصوا بها حتي ذاع صيتهم في كل بلاد العالم نذكر منهم علي سبيل المثال وليس الحصر الشيخ محمد رفعت، والشيخ علي محمود، والشيخ طه الفشني، والشيخ أبو العينين شعيشع، والشيخ محمود الحصري، والشيخ مصطفي إسماعيل، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ محمد صديق المنشاوي، والشيخ محمود البنا وغيرهم من فطاحل مشايخ القرآن الذين ارتبطوا بالإذاعة وتركوا لنا إرثا أدائيا يندر وجوده في هذا الزمان، كما تميزت إذاعة القرآن الكريم بإذاعة التواشيح والابتهالات الدينية ومنهم نذكر إمام المنشدين الشيخ علي محمود والشيخ طه الفشني، والشيخ النقشبندي وكلا من نصر الدين طوبار ومحمد الطوخي والشيخ عبد السميع بيومي والشيخ محمد عمران، ومن أشهر البرامج الدينية ' براعم الإيمان، وموسوعة الفقه الإسلامي، في رحاب السنة، وبريد الإسلام، وبرنامج مع الصحابة، ومقدمات التلاوة ' ثم تقديم الكثير من المسابقات الدينية للمستمعين لتمكينهم من الفوز بجوائز الحج والعمرة. لقد أجاد لنا الزمان بإذاعة قلما جاد الزمان بمثلها فمن خلال تلك السنة الطيبة انتشرت بسببها الكثير من إذاعات القرآن بالدول العربية، وقد استطاعت الإذاعة عبر تاريخها أن تملأ القلوب المصرية المسلمة بعامر الإيمان وأن تسري الثقافة الدينية المعتدلة لكل مسلم في مصر وخارجها، وعملت علي إسراء الجانب الروحي والثقافي والتربوي لكل رموزنا الوطنية من سياسيين وعسكريين وعلماء ومبدعين وفنانين ومثقفين، وكانت وعلي الدوام حربة ربانية موجهة إلي أهل التشدد والظلامية من خوارج الزمان بسبب تأصيلها للوازع الديني السليم وميلها للوسطية والاعتدال في تفسير الكتاب والسنة وزرعها في نفوس أفراد المجتمع المسلم حتي ساهمت كثيرا في تنقية الفكر الإسلامي من عوامل البدع والتشدد. واحتفالا بمرور 50 عاما علي إنشائها نتوجه بالشكر والثناء والعرفان لكل من ساهم في إنشائها وعمل فيها من أجل رفعة الإسلام ومن أجلنا ونأمل أن تظل تلك الإذاعة مزدهرة ومتطورة دائما بعلمائها ومبدعيها لنشر وإسراء الثقافة الإسلامية السمحة والمعتدلة باعتبارها جامعة إسلامية نتمني أن تمتد يد العون من جانب الدولة دائما.