يواجه الاقتصاد المصري في المرحلة الحالية نقصا شديدا في السيولة النقدية، ويرجع ذلك إلي أسباب عديدة، لعل أهمها العجز المستمر في الموازنة العامة والذي يزيد وتزداد أعباؤه من سنة إلي أخري. لقد قدر هذا العجز في الموازنة العامة 1102/2102 بحوالي 431 مليار جنيه مصري، أي حوالي 4.83٪ من إجمالي الايرادات المتوقعة في نفس العام، وبزيادة مقدارها 7.63٪ مقارنة بمقدار العجز في موازنة العام السابق 0102/1102 ومن المتوقع أن يزيد العجز الفعلي عام 1102/2102 عما هو مقدر بسبب استمرار حالة الإنفلات الأمني وضغوط المطالب الفئوية وتعطل حركة الانتاج نتيجة تدني الاستثمارات وعدم إنضباط عنصر العمل وانخفاض الائتمان المتاح للقطاعين العام والخاص، ولا ترجع أزمة السيولة إلي العجز المتزايد في الموازنة العامة وحسب، ولكن حالة عدم الاستقرار والقلق التي سادت بعد الثورة قد أدت إلي خروج قدر كبير من الأموال الأجنبية الساخنة المستثمرة في البورصة وأذونات الخزانة، مما أدي إلي انخفاض احتياطي النقد الأجنبي بالبنك المركزي بحوالي 21 مليار دولار، أي حوالي 27 مليار جنيه مصري وبالتالي إلي تخفيض قدرة البنك المركزي علي توفير السيولة النقدية. هذا النقص الشديد في السيولة النقدية له العديد من الآثار السلبية علي قدرة الدولة لمواجهة التزاماتها ومساهماتها الاستثمارية في البنية الأساسية وغيرها، وتصبح المسئولية الأولي التي يواجهها وزير المالية ضرورة العمل علي القضاء علي هذا النقص، أو علي الأقل العمل علي تخفيضه، عن طريق تخفيض عجز الموازنة العامة والسعي مع الحكومة لتحقيق الاستقرار والثقة لعودة الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر، وإعادة احتياطي البنك المركزي إلي مستواه قبل الثورة بل وزيادته. ومع التقدير الكامل للجهود التي تبذل لتحقيق الاستقرار وعودة الثقة، إلا أن عودة ما خرج من رأس المال الأجنبي أو قدر كبير منه واستئناف تدفق المزيد من الاستثمارات الأجنبية لن يتحقق في الأجل القصير، وتصبح المهمة العاجلة لوزير المالية، للتغلب علي عجز السيولة النقدية معتمدة أساسا علي نجاحه في تخفيض العجز القائم في الموازنة العامة في الأجل القصير. قد يبادر البعض إلي القول بأن السياسة المثلي والأفضل هي العمل علي زيادة الايرادات وترشيد الإنفاق، وأن تتم زيادة الايرادات عن طريق رفع كفاءة التحصيل ومنع التهرب الجمركي والتهرب الضريبي كأولوية قبل التفكير في فرض ضرائب جديدة أو رفع معدلات الضرائب القائمة أو تغيير الهيكل الضريبي، وأن يتم ترشيد الانفاق بتخفيض أعباء الدين العام وترشيد الدعم قبل التفكير في تخفيض الانفاق الاستثماري، ومع تقديري لهذا الرأي وضرورة إصدار التشريعات واتخاذ الاجراءات لتحقيقه، إلا أن نتائج هذه السياسة لا تتحقق في الأجل القصير حيث الحاجة ملحة إلي سد العجز في السيولة، وأنها تحتاج إلي بعض الوقت حتي تؤتي ثمارها. وعلي الجانب الآخر فإنه يصعب الاتفاق مع من قد ينادي باللجوء إلي سياسات الإصدار الجديد بطبع المزيد من أوراق البنكنوت لتوفير السيولة اللازمة، وذلك لما تؤدي إليه هذه السياسات إلي إشعال الضغوط التضخمية في الاقتصاد بكل ما يحمله ذلك من ضغوط علي الطبقات محدودة الدخل، وضعف القدرة علي التصدير، والضغط علي سعر الجنيه المصري.... ألخ. وإذا كان من غير المتوقع ان تؤدي سياسات زيادة الايرادات وترشيد الانفاق إلي سد العجز في السيولة النقدية في الأجل القصير، وإذا كانت سياسات الإصدار الجديد يصعب أن لم يستحيل اللجوء إليها خاصة في الظروف الحالية التي يمر بها الاقتصاد المصري، فلن يبقي أمام وزير المالية إلا أن يلجأ إلي سياسات الاقتراض المحلي أو الاقتراض الخارجي، ولكل من السياستين ايجابيات وسلبيات، فالاقتراض الداخلي يتميز بأنه اعتماد علي الذات، كما أنه لا يتأثر بما قد يحدث من انخفاض في سعر صرف العملة المحلية، إلا أنه يتم أساسا عن طريق الجهاز المصرفي بما يقلل من الائتمان المتاح للمشروعات الايجابية، وبما يؤثر سلبا علي كمية الانتاج وفرص العمالة، كما أن تكلفته متمثلة في سعر الفائدة مرتفعة إذا ما قورنت بتكلفة الاقتراض الخارجي مما يزيد من أعباء الموازنة العامة في السنوات التالية، أما الاقتراض الخارجي فله ميزتان أساسيتان، الأولي انه اقل تكلفة كما ذكرنا من الاقتراض الداخلي، والثانية أنه اضافة إلي الموارد المحلية المتاحة للائتمان، مما يسمح بتوجيه موارد الجهاز المصرفي نحو تمويل المشروعات الانتاجية العامة والخاصة، بدلا من استخدامها لشراء أذونات الخزانة لتمويل عجز الموازنة العامة، إلا أن للاقتراض الخارجي سلبياته لما قد يرتبط به من شروط يصعب قبولها، ولاحتمال زيادة أعبائه في حالة تعرض سعر صرف العملة المحلية إلي الانخفاض في مواجهة العملات التي يتم سداد القروض الأجنبية بها. ونظرا لاعتماد وزارة المالية، في الفترة منذ قيام الثورة في يناير سنة 1102، حتي الآن، علي الاقتراض الداخلي خاصة من الجهاز المصرفي المصري، فإن ذلك قد أدي إلي انخفاض ما لدي الجهاز المصرفي من أرصدة محلية من 3.702 مليار جنيه في يناير سنة 1102 إلي 2.431 في يوليو سنة 1102 أي انخفاض يبلغ حوالي 53٪ ولايزال الانخفاض مستمرا بعد يوليو سنة 1102، وتطالعنا صحف 2 نوفمبر 1102 بلجوء وزارة المالية إلي اصدار أذونات خزانة جديدة بما قيمته 5.7 مليار جنيه، بحيث نستطيع القول أن الأمر قد وصل إلي الحد الذي يصعب استمراره، ونظرا لأن هناك حاجة للحد من حالة الركود التي يعاني منها الاقتصاد في الوقت الحالي وضرورة العمل علي تحريك عجلة الانتاج، فإن من المفيد توجيه الائتمان المصرفي نحو تمويل المشروعات الانتاجية والتقليل بقدر الإمكان من استمرار استخدامه في تمويل عجز الموازنة العامة، هاتان الحقيقتان بالاضافة إلي انخفاض تكلفة الاقتراض الخارجي جميعها تصب لصالح الاعتماد من حيث المبدأ علي القروض الخارجية في المرحلة الحالية لمواجهة ما يوجد من عجز السيولة النقدية. ولكن إذا كانت الظروف الحالية التي يمر بها الاقتصاد المصري تجعل من الاقتراض الخارجي إحدي الوسائل المهمة للتغلب علي أزمة السيولة النقدية، فلابد وأن نحرص علي ضرورة رفض الشروط غير المقبولة التي قد تفرضها المنظمات الدولية المقرضة وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، وياحبذا لو تمكن وزير المالية من الحصول علي هذه القروض من الدول العربية الشقيقة التي يتوافر لديها فائض يسمح بذلك، وياحبذا أن تكون أعباء هذه القروض ميسرة بل وأن تكون المنح بديلا عن القروض، كما لابد وأن نحرص علي ان يتم انفاق حصيلة هذه القروض لتشغيل الطاقات الانتاجية العاطلة وفي خلق طاقات انتاجية جديدة مما يسهم في تحريك عجلة الانتاج واتاحة المزيد من فرص العمل وأن نتفادي استخدامها في أغراض استهلاكية غير انتاجية. ووفقنا الله لما في خدمة مصر وشعبها