1 يحمل الرئيس السيسي في جيبه مفكرة صغيرة. بها يدون ملاحظاته علي ما يري أو يسمع في مناسبة أو احتفال. يوم الأحد الماضي، كان الرئيس يستطيع أن يسجل ما يلحظ من مآخذ، خلال افتتاح الطريق الدائري الإقليمي بمنطقة الخطاطبة، ومعه مشروعات عديدة أخري للطرق والكباري من الإسكندرية إلي أقاصي الصعيد، ثم يسأل عنها رئيس الوزراء ووزير النقل ورئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، عقب انتهاء الاحتفال، ويطلب إجراء التعديلات أو الإصلاحات اللازمة، دون أن يدري أحد من عموم الناس بوجود سلبية بسيطة أو مآخذ للرئيس لا يلحظها غيره علي مشروع ضخم وهائل. لكن الرئيس السيسي آثر أن يبوح بملاحظاته علنا، وعلي الهواء أمام كاميرات التليفزيون ويطلب ردودا وإجابات فورية عنها من المسئولين، حتي لو كانت كل المسألة تتعلق بضيق منزل كوبري أو اعتداء علي جزء محدود من حرم الطريق. يعلم الرئيس أنه يحادث المسئولين ومعهم أيضا عشرات الملايين من المواطنين الذين يشاهدون التليفزيون، ويعلم أن هناك من يترصد لأي إنجاز ويسعي جاهدا لقلب المنجزات إلي إخفاقات، ويدرك الرئيس أن ملاحظاته قد تكون زادا لهؤلاء في معارك طواحين الهواء علي وسائل التواصل الاجتماعي. كل ذلك دار في رأسه، قبل أن يتحدث ويسأل، غير أنه لم يتردد لحظة، وبادر وساءل واحتد. هذه هي طبيعة الرجل. يسعي للكمال في كل ما يقع علي عاتقه من مسئولية، ويفتش عن أوجه نقص فيما يظن غيره أنه مكتمل. هذه أيضا طبيعة الرئيس. يكاشف الناس ويفاتح الجماهير، إيمانا بأنهم أصحاب الحق والمصلحة في كل ما يجري علي أرض مصر، ويبوح أمامهم بأي وجه للقصور في أي شيء، لأنهم شركاء معه في العمل والإنجاز، سعيا لتلافي أي نقص فيما هو قادم من أعمال ومشروعات، ورغبة في تعميق وعي المواطن بكل ما يجري علي أرض بلاده. ولعل احتفاء الرئيس السيسي بوصف الشاب ابن قنا لحالة الطرق الداخلية بالمحافظة دليل علي كل ما سبق، حتي لو كان الوصف هو أنها متهالكة. أبرز ما يلفت الانتباه في وقائع الافتتاحات وملاحظات الرئيس، هو عين السيسي! المعروف عن الرجل أنه بعيد النظر، صاحب رؤية يستشرف بها المستقبل، ويبني علي أساسها حسابات الحاضر ويحدد خطوات اليوم. ارجع إلي كل ما جري علي أرض مصر منذ تولي المسئولية، وإلي كل ما تحقق من تحديث للقوات المسلحة منذ تسلم قيادتها العامة، ثم قيادتها العليا، وقارن بين وضع مصر الداخلي والإقليمي والدولي منذ 4 سنوات، وأحوالها الآن، وسوف تدرك بمنتهي السهولة معني بُعد نظر السيسي وعمق رؤيته. لكن الذي لم يكن معروفا عنه علي نطاق واسع ولعله أهم مزاياه ومواهبه الشخصية، هو أنه صاحب عين مدققة، لا يشغلها مجمل الصورة مهما بلغت روعتها، عن النظر إلي أدق تفاصيلها مهما صغر حجمها. يحظي السيسي - ما شاء الله - بعين لها قدرة فطرية، علي التقاط الخطأ، في أي مشهد مهما كانت سرعة كادراته مثلما لها القدرة علي النظرة الشاملة رباعية الأبعاد، لا يلهيها الخطأ، عن الإصلاح والاستمرار، الذي لا يفوت الصغيرة، لا تفلت منه كبار الأمور. 2 الآتي بالطائرة من أوروبا إلي مصر، يلحظ بسهولة عند دخوله الأجواء المصرية، نقطة التقاء رمال الساحل المصري بمياه البحر المتوسط، في أقصي شمال الدلتا، عند المنطقة المحصورة بين مدينة دمياط وبحيرة البرلس. في كل مرة أعود من أوروبا، أحرص علي أن أطل - إذا كنت قريبا من نافذة الطائرة - علي تلك المنطقة رائعة الجمال الخالية - تقريبا - من السكان. ولقد سعدت كثيرا عندما سمعت قبل عامين عن إنشاء مدينة جديدة شمال الدلتا في هذه المنطقة هي المنصورة الجديدة علي ساحل البحر المتوسط غرب دمياط وشمال المنصورة التاريخية. وأعتقد أن الرئيس السيسي عندما كان يتحدث عن مصر أخري غير التي نراها في 2020، أي بعد عامين، كانت في مخيلته مع العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة وربما قبلهما، مدينة المنصورة الجديدة. دون حاجة إلي شرح أو استدعاء أسانيد، أظن أن المنصورة الجديدة هي أهم مشروعات التنمية العمرانية علي الإطلاق في برنامج مصر 2030، فهي عاصمة للدلتا دون منازع، تطل بساحل عريض علي البحر المتوسط، علي مرمي حجر من موانئ الساحلين الشرقي والجنوبي لهذا البحر الأهم عالميا، وعلي مسافة لا تزيد علي 180 كيلومترا من القاهرة، ولا تحتاج مشروعاتها السكنية والتجارية والاستثمارية إلي ترويج، فبمجرد طرحها، سوف تكون ساحة تكالب لاقتنائها بين أبناء محافظات الدلتا، بالأخص محافظة الدقهلية المعروفة بثراء أبنائها. وأظن أنه باكتمال عقد مدن الساحل الشمالي من رأس الحكمة وحتي شرق بورسعيد امتدادا إلي العريش، سيكون لمصر كورنيش متصل علي ساحل طويل ممتد، أشبه بريڤييرا جنوبية للمتوسط، تضارع الريڤييرا الشمالية لسواحل شمال إسبانيا وجنوب فرنسا وشمال غرب إيطاليا علي المتوسط. 3 كلما زرت بلداً أفريقياً، أو حل رئيس أفريقي ضيفاً علي مصر، سمعت اسم الزعيم الراحل عبدالناصر مقروناً بعبارات التقدير والإكبار. ففي عصر عبدالناصر، كانت مصر حاضنة لحركات التحرر الأفريقية ضد الاستعمار، وكانت داعمة لمشروعات البناء والتنمية البشرية في القارة، بالكوادر المصرية وبالتدريب للأشقاء الأفارقة وبإنشاء مشروعات بسيطة كالمستشفيات ومحطات المياه، في مختلف الدول الأفريقية. وخلال السنوات الخمسين الماضية، تواري البعد الأفريقي في أولويات السياسة الخارجية المصرية بالذات منذ محاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا علي أيدي التنظيمات الإسلامية المتطرفة عام 1995، ولم نعد نسمع حتي وقت قريب إلا عن مشروعات رمزية مصرية تقام في دول أفريقية، بينما تعالت الأصوات تحذر من تغلغل قوي إقليمية في القارة الأفريقية علي حساب المصالح المصرية والأمن القومي المصري. اختلف الأمر.. منذ تولي الرئيس السيسي المسئولية في مصر، ووجدناه يحرص علي حضور القمة الأفريقية السنوية بأديس أبابا ومعظم القمم التي تنعقد في منتصف كل عام بإحدي العواصم الأفريقية، وتعددت زيارات الرئيس إلي دول القارة، وعاد الرؤساء الأفارقة إلي التوافد علي مصر. وبينما تولي الرئيس السيسي منصبه ومصر معزولة عن محيطها وعضويتها مجمدة في الاتحاد الأفريقي، استعادت مصر عضويتها بعد أسابيع معدودة من انتخاب الرئيس. وفي يناير المقبل، يتسلم الرئيس السيسي رئاسة الاتحاد الأفريقي من الرئيس الرواندي بول كاجامي، خلال الجلسة الافتتاحية للقمة الأفريقية الثانية والثلاثين التي ستعقد في العاصمة الإثيوبية. وهذه هي المرة الأولي التي تتولي فيها مصر رئاسة الاتحاد الأفريقي منذ 25 عاماً مضت، حين تركت رئاسة منظمة الوحدة الأفريقية عام 1993، بعدما تسلمتها دورتين متتاليتين. أعلم أن مؤسسة الرئاسة والدبلوماسية المصرية تعدان ملفاً شاملاً للتعامل الجاد الفعال مع القضايا الأفريقية خلال فترة تولي الرئيس السيسي رئاسة الاتحاد الأفريقي. لكني أود أن أطرح أفكارا محدودة لها صفة الاستدامة والارتباط المباشر بالعلاقات المصرية الأفريقية، أثناء وبعد رئاسة مصر للاتحاد الأفريقي. أولاً: التوسع في مهرجان السينما الأفريقية الذي يقام سنوياً بالأقصر، دون ميزانية كافية ودعاية لائقة، وتحويله إلي مهرجان عالمي ضخم، مع إنشاء مهرجان آخر للأغنية الأفريقية أقترح أن يقام في أسوان كل شتاء، مصحوبا بمسابقات لفرق الفنون الشعبية بدول القارة. ثانياً: تنظيم قمة سنوية علي أرض مصر بجانب قمتي الشتاء والصيف الأفريقيتين، تخصص للشباب الأفريقي، يتم الاعداد لها جيداً، وتخصص كل قمة لموضوع يتعلق بأولويات اهتمام الشباب، ولعل تلك القمة السنوية، تفرز قيادات أفريقية شابة، تتولي المسئولية في بلادها في المستقبل القريب. ثالثا: إحياء الإذاعات الموجهة لدول القارة باللغات الإفريقية، وإطلاق قناة ثقافية إخبارية موجهة باللغتين الإنجليزية والفرنسية إلي دول القارة، تبث برامج ثقافية وأفلاما تسجيلية ومسلسلات درامية مصرية مترجمة أو مدبلجة. رابعاً: إنشاء جائزة كبري باسم جائزة السيسي الأفريقية، تقدم جوائزها في مجالات العلوم والفنون والآداب والسلام، علي غرار جائزة نوبل، ويتم تمويلها من الحكومة المصرية وتبرعات المستثمرين المصريين في أفريقيا وغيرهم. وأظن هذه الجائزة سيكون لإطلاقها دوي كبير في أوساط النخبة العلمية والثقافية والسياسية الأفريقية، لاسيما وأن الأفارقة محرومون من جنة نوبل إلا قليلاً. ويمكن تشكيل مجلس أمناء لهذه الجوائز من كبار العلماء والمفكرين والفنانين الأفارقة، ولجان تحكيم لكل فرع، مع تنظيم حفل سنوي لتوزيع الجوائز ربما يكون من المناسب أن يقام في مكتبة الإسكندرية.