في اليوم الثالث من الشهر الحالي، نظمت جماعة »الإخوان المسلمين« بمقرها، حفل »تخريج« الدفعة الخامسة من القضاة العرفيين أو مدرسة الصلح التابعة لقسم البر والعمل الخيري بالجماعة، وستكون مهمة هؤلاء »القضاة« الحكم في المنازعات والقضايا الأسرية والميراث. وأوضح الدكتور محمد بديع، المرشد العام للجماعة، أن مدارس الصلح العرفية »وسيلة الجماعة لنصرة المظلوم في كل بقاع الأرض، وهي واجبة، سواء كان المظلوم مسلما أو غير ذلك«، ويبلغ عدد أفراد الدفعة الخامسة من القضاة العرفيين 521 من محافظتي الشرقية وكفر الشيخ.. ويقول الدكتور عبدالرحمن البر، عضو مكتب الإرشاد ومسئول ملف البر بالجماعة: »إننا لسنا شركاء في الحكومة، ولم نكن، ولكننا شركاء في حمل المسئولية، وهذه القضايا تقض مضاجعنا..«.. ومدة الدراسة بمدرسة تخريج القضاة العرفيين بالجماعة سنتان تتم خلالهما دراسة القرآن والسنة، وخاصة الأحاديث التي تشير لطبيعة عمل الحكماء، مثل آيات القصاص والمعاملات وأحاديث البينة علي من أدّعي واليمين علي من انكر، وعلم المواريث وكيفية تقسيم التركات، والحدود والتعزير، والأحوال الشخصية مثل الزواج والطلاق، وكيفية حل مشكلات العائلات والجيران وجميع الشئون المحلية التي تهم المواطنين.. وليس شرطا وجود مؤهل عال لقبول الدارس في تلك المدارس التي يتخرج فيها »القضاة«. وقد أنشئت مدارس القضاة العرفيين بجماعة الإخوان من 01 أعوام بهدف »الصلح بين الأطراف المتنازعة التي تنشب بين العائلات بالمدن والمناطق والأحياء بمختلف المحافظات«. القضاء العرفي يوجد في البيئات البدوية، والقبلية، وهناك آراء ترجح أن القضاء العرفي في مصر جاء من الجزيرة العربية مع الفاتحين العرب. ويقول الشيخ إبراهيم سالم الجبلي- من قبيلة المزينة بجنوب سيناء- ان السبب في أن البدو يمارسون القضاء العرفي يرجع إلي الحياة البسيطة الخالية من التعقيدات التي يعيشها البدو من قديم الزمان. وفي عالم مغلق.. تتولي القبيلة إدارة شئونه ويحكمه العرف.. يصبح من الطبيعي أن يوجد القضاء العرفي والمجالس العرفية.. فهي أقرب إلي جلسات »المصاطب« في العصور الوسطي.. حيث السلطة العليا في المجتمع هي سلطة مشايخ القبائل والعشائر وكبار العائلات، الذين يطبقون مجموعة قواعد لم يطرحها قانونيون ولا برلمانيون، ولكنها محفوظة عن ظهر قلب، ويلجأ إليها أبناء البادية لحل الخلافات والنزاعات التي تنشأ بينهم في مختلف القضايا، أما عالم اليوم فإنه أبعد ما يكون عن الحياة البسيطة الخالية من التعقيدات.. وهناك قاموس من المصطلحات والأمثلة في القضاء العرفي مثل »دفن الحصي« أي تحديد الموضوع والمطالب، ومثل »فورة الدم«، وهي ثلاثة أيام وثلث من لحظة ارتكاب الجريمة، وفيها يستطيع المعتدي وعصبته الجلاء بعيدا عن موقع الجريمة، كما انها بمثابة تصريح لأهل »صاحب الدم« بالثأر والاستيلاء علي الأموال، وهناك مصطلح »البشعة«، وهي »طاسة« محمية في النار يجري »لحسها« بلسان الشخص المتهم، فإذا حرق لسانه يعتبر مدانا، وإذا لم يحدث له ضرر تتأكد براءته من التهمة! وهناك »القائف«، وهو شخص يقوم بمعرفة النسب عن طريق النظر في الأقدام والأكتاف! أما كلمة »الغرة« فانها تعني الفتاة التي كانت تقدم مع »الدية« في حالات القتل مع العمد لكي يتزوجها أحد أقارب القتيل.. كترضية إضافية.. ومن الأمثلة البدوية الشهيرة: »الإبل كلاليب الرجال«، ومعناه ان توثيق الإبل يجبر صاحبها علي الرضوخ للعدالة، بحيث يتم سحبه رغم أنفه بنفس طريقة سحب وجر الأنعام العاصية.. ولما كانت المنازعات في المجتمع البدوي تدور حول مناطق الرعي وملكية المواشي والأغنام والأبل والخيول، فإن العقوبات التي يأخذ بها القضاء العرفي هي ربع »دية« في حالة قطع الأذن »الدية مائة جمل« وكذلك في حالة فقأ العين أو بتر الأصبع، أما في حالة قطع اليد أو بتر القدم، فإن العقوبة نصف »دية« ومايشبه ذلك في حالة السرقات. أنصار القضاء العرفي علي حق عندما يشكون من بطء التقاضي وعدم تفعيل القوانين، وهم علي حق ايضا عندما يقولون ان الدولة ومؤسساتها والحكومة تتجاهل الطرق الرسمية وتلجأ إلي الطرق العرفية »كما حدث في »أبوفانا« بالمنيا وفي قنا وفي أطفيح.. وغيرها«، وهم علي حق عندما يقولون ان المحاكم تشهد ثمانية ملايين حكم لا يستطيع أحد تنفيذها، وعشرين مليون قضية لا يتم البت فيها.. بل انني أضيف إلي ذلك ان كل من يتطوع لحل مشكلات الآخرين وتسوية المنازعات بين العائلات يضطلع بجهد مشكور، كما ان عدم تنفيذ الأحكام القضائية أدي إلي التقليل من هيبة القضاء في نظر المواطنين، بل ان الدولة أصبحت عاجزة أمام قوة القضاء العرفي ونفوذه.. ولكن العودة إلي العرفية القبلية في القرن الحادي والعشرين يلغي الدولة المدنية الحضارية. هل من المعقول في حوادث القتل ان تتفق العائلتان الآن علي عقد جلسة لكي يصدر الحكم بعدها ب»القودة« أي ان يتقدم القاتل أو واحد من أهله إلي »ولي الدم«، وهو يحمل كفنه علي يديه أو يوضع حبل في رقبته - كما يحدث أحيانا- ليتم سحبه مثل الذبيحة إمعانا في إذلاله، ويكون لولي الدم الحق ان يعفو عنه أو يذبحه بيده »غير انه دائما ما يعفو«..؟!. وللقضاء العرفي مخاطره.. ويتضح ذلك من المثال التالي: يتوجه شخصان للقضاء العرفي لتسوية النزاع بينهما حول قطعة أرض فضاء.. ويدّعي احدهما انه قد اشتري الأرض من الثاني وان الثاني يرفض تسليمها له، ويتم كتابة ما يسمي »مشروطة تحكيم« بواسطة القضاة العرفيين، وفيها يتعهد الطرفان بقبول الحكم الذي سيصدر عن القضاة العرفيين وعند النظر في الموضوع يقر الطرف الثاني بانه باع الأرض، ولكن يتبقي مبلغ من المال، ولن يسلم الأرض إلا بعد ان يتقاضي بقية المبلغ.. وهنا يقر الطرف الأول بتسليمه بقية المبلغ في الحال اثناء انعقاد الجلسة، ويسلمه المال بالفعل، ويقر الطرف الثاني بالموافقة علي التسليم، ويجري النص علي كل هذه الاتفاقات في »المشروطة«، ويوقع الطرفان ومعهما القضاة العرفيون والشهود، وينصرف كل إلي حال سبيله - بعد ذلك يلجأ الطرف الأول- المشتري- إلي المحكمة القانونية المختصة التابعة للدولة، لإقامة دعوي قضائية لاستصدار حكم بتسليمه الأرض، ويقدم المستندات، وهي عقد بيع ابتدائي بينه وبين الطرف الثاني، ومشارطة التحكيم العرفي »الموثقة« ويستصدر حكما بإلزام الطرف الثاني بتسليمه الأرض محل النزاع ثم يلجأ للشرطة لتنفيذ الحكم القضائي بتسلم الأرض، وتتحرك قوات الشرطة وتسلم الأرض للطرف الأول تنفيذا لحكم القضاء، وهنا تصبح الأرض ملكا خالصا له... بينما لا توجد أي علاقة بين الطرف الثاني »البائع« وبين الأرض، لأن هذه الأرض مملوكة للغير الذين يملكونها بعقود موثقة لأنهم اصحابها الحقيقيون!! وقبل ان يدرك أصحاب الأرض الحقيقيون كل ما حدث.. يكون المشتري المزيف قد استصدر أحكاما قضائية بصحة التوقيع وتراخيص للبناء فوق الأرض، وربما يكون قد أجري عدة عمليات بيع وهمية لأشخاص آخرين بعد تغيير معالمها! القضاء العرفي ليس إحدي درجات التقاضي التي نظمها الدستور أو القوانين، بل انه يخل بسلطات الدولة ويضعف هيبتها، والاستعانة بالقضاء العرفي يعني ابتعاد الشعب عن الدولة وعدم ثقته في مؤسساتها، بل إنه يعني الاعلان عن فشل الدولة وإهدار كل القوانين. والتأسيس للقضاء العرفي وتقنينه يعني إقامة دولة موازية للدولة المصرية، ومقدمة لانقسام الدولة إلي مسلم ومسيحي، لأنه لا توجد علاقة بين القضاة العرفيين ومواطنين يعيشون علي هذه الأرض ويتبعون ديانة أخري غير الاسلام، بل ان القضاء العرفي يعلن رسميا الآن تمرده علي قوانين الدولة والدليل علي ذلك ما صرح به الدكتور عبدالرحمن البر حول وجود قوانين حالية »تفسد العلاقة الأسرية« أي ان نقطة البداية في عمل قضاته العرفيين هي رفض تطبيق هذه القوانين وتطبيق قوانين الجماعة التي ينتمي إليها الدكتور البر، والتي ترفض منح حقوق للمرأة تتجاوز ما تراه مناسبا. كلمة السر في الحفاظ علي الدولة: احترام القوانين وعدم الاستعانة بقانون خارج القانون.