كم سنة مضت الان علي لقائي الاول بمحمد ناجي. خمس وثلاثون سنة أو يزيد قليلا . قرأت له شعرا في السبعينات قبل أن نلتقي . والتقيت به بعد أن انتهي من التجنيد عام 4791 لقد عاصر مثل كثير من أبناء جيله حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر المجيدة . وكان معروفا بيننا كشاعر . في ذلك الوقت لم يكن الكتاب والادباء بهذه الكثرة العددية الفائقة . كانوا فريقين . فريق يجلس وسط القاهرة . في مقهي ريش أساسا ومقهي البستان بشكل ثانوي وفريق لا يراه أحد . كان هناك انقسام كبير . والذين كانوا يجلسون بمقهي ريش لم يكونوا أبدا علي وفاق مع النظام . وهذا لايعني أن الآخرين جميعا كانوا علي وفاق معه . كثير منهم انصرف لكتابته ولم ير معني للانخراط في السياسة مع أو ضد . لكن فريق ريش كان لا يري أي معني للعمل في صحف الحكومة أو دواوينها أو الاقتراب منها إلا الوفاق مع النظام . ما أثار انتباهي في ناجي . ونحن من عمر واحد تقريبا أنه كان خافت الصوت جدا . يبتسم ونادرا ما يضحك . رغم أنه عمل بالصحافة منذ بداية حياته فهو خريج كلية الإعلام إلا انه كان وظل دائما قليل الكلام لا يقتحم المجال الحيوي لأحد .وفي اكثر من مرة كدت أسأله عن الهموم . لكن كانت الهموم عامة . الحياة اليومية والكتابة في وطن يغلق المجلات الثقافية ويطارد الأدباء . اختفي ناجي كما أحب أن أناديه . وكما يناديه الكثيرون سنوات طويلة يعمل في الخارج وعاد يفاجئ الوسط الادبي برواية . "خافية قمر " . فاجأت الرواية اصدقاء الشاعر الذي لم يعلن ابدا من قبل نيته في كتابة رواية . عاد من الخارج ليحكي . اختلط الخارج بالداخل واختلط الواقع بالخيال وبدا لي ناجي الذي كان قليل الكلام دائما قد انفجر بالحكايات . وفي نفس العام جاءت روايته القصيرة الثانية " لحن الصباح " وضع ناجي قدميه بقوة في حقل الرواية . وتتالت الأعمال الجميلة " مقامات عربية و " العايقة بنت الزين " و" رجل أبله .. امرأة تافهة " وأخيرا " ليلة سفر " . صار محمد ناجي من عمد الرواية المصرية والعربية . أعطاه الشعر روحا تستطيع أن تحلق في الخيال وتجعله واقعا يمكن ان نلمسه أو نراه حولنا. وناجي الذي يعرف ما جري لأمتنا العربية والمصرية. ورغم تجربته السياسية أيضا يوما ما اعطاه الشعر طوق نجاة يبتعد به عن أي مباشرة ممكنة أو مغرية. ورغم تجربته الشعرية فالشعر يتحقق في روح النص من مفردات الحكاية وبنائها اكثر مما هو من اللغة. وظل ناجي علي عادته قليل الكلام يبتسم أكثر مما يضحك . وفي المرات القليلة التي التقينا فيها لم يتغير عما عهدته فيه . هذا الذي يتفجر في رواياته عالم من العجائبية وعالم من الناس الهامشيين ومن الصاعدين بقوة علي جبروت الثروة ومن الملوك ذوي العاهات الخلقية . كأنما الملك كله لا يكتمل أو غير مكتمل . وكأن السادة موجودون وكعب أخيل فيهم أمامنا رغم ما يبدو عليهم من قوة وجبروت . فاجأنا ناجي منذ أشهر قليلة بديوان سردي أو سردية شعرية اسماها " تسابيح النسيان " يمكن أن نحتار في تسمية النص. هل هو رواية شعرية أم هو نثر شعري؟. لا أريد أن اقول مشعور كما قال هو مرة أو قرات انه قال ذلك . فكلمة مشعور لها دلالة شعبية بعيدة عن الشعر. وقد يكون قصد السخرية بشكل او بآخر، رغم أن الدلالة من مشعور تعني انه نص يحركه الشعر. نص غير ساكن كثير الإيحاء كثير الظلال. وناجي مثل الكثيرين من أبناء الريف اكتشف في سن متأخرة مرض الكبد . او في سن متقدمة. وفي كل الاحوال لم يتخل ناجي عن هدوئه وعزوفه عن التواجد وسط صخب الحياة الادبية . ولم يتخل ناجي عن ابتسامته الهادئة التي بدا لي دائما وقد استعاض بها عن الضحك . لماذا اكتب عن محمد ناجي أو ناجي اليوم؟. ولماذا لا اتحدث باستفاضة عن رواية مثل "الافندي " تفضح الصعود السريع للانتهازيين إلي مكان السلطة والجاه وتفضح أشياء كثيرة انتفضت ضدها البلاد والعباد. ولماذا لا أتحدث باستفاضة ولو قليلا عن »ليلة سفر« التي يتحرك فيها المسلم والمسيحي في وطن يتزلزل فيه البيت من الاحداث التي تشير إلي الكثير مما مر علي الوطن . في روايات ناجي كثير من الدلالات علي زماننا حقا، ولكنها أيضا بلغتها وبالكاتب الذي يعرف ان قيمة العمل في بنائه وليس في موضوعه . وتتنوع اللغة في أعماله بتنوع شخصياته وبتنوع أزمنة النص . هذا الكاتب الذي أراد وقدر بقوة أن يكون له طريقا في القص يخصه وعليه علاماته أو فيه سماته، يفصح بهدوء وبلا مبالغة وتساعده لغة جاءت من الشعر تحمل توتره لا غنائيته ولا موسيقاه الظاهرة، لغة جاءت من ثقافة رفيعة وخبرة كبيرة في الحياة هنا أو هناك . يا عزيزي ناجي الذي تسامحت في الحياة مع كل الظواهر المرهقة وقابلت الجميع بابتسامتك وبنيت العالم كما شعرت به وامتعتنا بالبنيان قبل المعني . ياعزيزي ناجي سوف تنتهي من العملية الجراحية وتظل جميلا تبتسم أكثر مما تضحك . ولعلك تضحك الآن سعيدا بعودة الوطن .