أبدأ بأن عبد الله الفقير كاتب هذه السطور مذهول من هذا السجال العبثي العجيب الذي تفجر في وجوهنا بعد أن داهمتنا الأسبوع الماضي كارثة المقتلة الجنونية الرهيبة التي ارتكبتها قطعان المتوحشين في مسجد قرية الروضة بشمال سيناء، فقد كان (ومازال) موضوع السجال: هل القطيع المجرم مرتكب الجريمة »كافر»أم ماذا؟ وبعيدا عن حقيقة أن الاهتمام بقضية »الكفر»و»الإيمان» ونحن أمام ظاهرة منحطة تستخدم الدين كغطاء ومبرر لأبشع الجرائم وأكثرها خسة، هو أمر يصب فورا ومباشرة في مجري ينتهي إلي تكريس هذه الظاهرة القبيحة ويمنحها مصداقية أن الدين قابل لأن يكون أداة تستعمل لتسويغ أي شيء في الدنيا (سلبا وإيجابا) ومن ثم لاداعي لاستحضار قيم الأخلاق أو قواعد القانون وغير ذلك من منتجات ومنجزات مسيرة تطور وتحضر الجماعة البشرية، إذ يكفي أن تقول (حسب فهمك) هذا مباح دينيا وذاك ينكره الدين، ثم بعد ذلك تفعل وترتكب ما تريد!! بعيدا عن هذه الحقيقة فإن سجال »كفر»و»إيمان» القتلة والإرهابيين، يفتح كذلك باب البحث عن »إرهابي جيد» وإرهابي »أقل جودة»و»إرهابي حقير» !! طبعا هناك أنواع مختلفة من الذين توسلوا بالعنف لتحقيق أهداف سياسية أو أخلاقية، عرفهم التاريخ الإنساني سواء في العصر الحديث أو العصور الغابرة، وكما انشغل المفكرون وعلماء الاجتماع والسياسة بالبحث في دوافع هؤلاء الإرهابيون وجماعات العنف والأسباب والبيئات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي أنتجتهم، فإن الفن عموما والأدب خصوصا لم يقصرا في محاولات الاقتراب والغوص في عمق شخصية بعض نماذج من المنخرطين في جماعات العنف، وقد انتهت بعض هذه المحاولات إلي تقديم حالات لإرهابيين أفراد تثير التعاطف وربما شيئا من الإعجاب.. غير أن كل (أو الأغلبية الساحقة) من هذه الحالات والنماذج الدرامية أتي بها مبدعوها من تأمل عميق في حال جماعات وفرق (أغلبها ظهر في العصر الحديث) كانت تستهدف من العنف الوصول قسريا إلي مجتمع فاضل يزهو بقيم العدالة والحرية والمساواة، ومن ثم كان نبل الهدف كافيا من الناحية الأخلاقية لإغراء التمييز الدرامي بين إرهابي مازالت فيه بقايا من ضمير إنساني حي، وآخر جرفه التيار فصار مجرد قاتل معدوم الضمير يحمل بندقية هوجاء عمياء لا تميز بين الضحايا. أذكر أنني أشرت هنا ذات مرة إلي واحدة من أشهر وأهم الأعمال الإبداعية التي كان موضوعها »الإرهابي النبيل».. إنها مسرحية »العادلون» التي كتبها الروائي الفرنسي ذائع الصيت »ألبير كامو» وتدور أحداثها في روسيا القيصرية مطلع القرن الماضي، أما أبطالها فهم: »إيفان»و»استيبان»والفتاة»دورا»، وقد كلفوا من قيادة منظمة ثورية فوضوية ينخرطون في عضويتها بمهمة اغتيال دوق يدعي سيرج، وتبدأ المسرحية بحوار تمهيدي يدور بين هؤلاء الثلاثة يكشف دوافعهم المختلفة للانخراط في هذه المنظمة، إذ يقول إيفان إنه اختار العمل الثوري »لأنني أحب الحياة»، غير أن استيبان يرد عليه معترفا بأنه لا يحب الحياة »بل أحب العدالة وأراها أسمي من الحياة بكثير»، وعندما يأتي دور البوح علي »دورا» تؤكد علي ما قاله الأخير وتزيد واصفة حالها وحال رفاقها: »إننا قوم عادلون ولهذا نحن محكومون بأن نكون دائما أكبر من ذواتنا ومتعالين علي عواطفنا». بعد هذا الحوار تنتقل بنا المسرحية إلي حيث يكمن الشبان الثلاثة علي طريق سيمر منه موكب الدوق، وفيما يظهر إيفان متخذا وضع الاستعداد لإلقاء قنبلة علي الموكب يكون »استيبان»و»دورا»في الخلفية يتأهبان لحماية ظهره أثناء تنفيذ العملية.. لكن في اللحظة التي تلوح فيها عربة الدوق وهي تتهادي علي الطريق ثم تمر فعلا أمام إيفان فإن هذا الأخير يفاجئ رفيقيه بأنه لم يحرك ساكنا ولم يقذف القنبلة علي الموكب.. لماذا؟! يسأله استيبان ودورا بدهشة وغضب فيرد عليهما بأن الدوق سيرج كان يصطحب معه أولاد أخيه الأطفال، و»لا قضية في الدنيا تبرر قتل أطفال أبرياء».. هكذا قال إيفان. وبعد.. أظنني لست أحتاج إلي شرح الفارق بين جماعات تتخذ من جرائم العنف والقتل والتخريب وسيلة تتوهم أنها كفيلة بتحقيق أهداف لا يجادل أحد في نبلها، وجماعات وقطعان أخري (كالعصابات التي نكتوي بفظائعها الآن) تبدو وسائلها المفرطة في الهمجية متسقة ومنسجمة تماما مع شذوذ وظلامية وانحطاط أهدافها المعلنة.