ولم تكن اللحظة قابلة للنسيان أو ممكنة الطمس أو التشويه، مهما كانت أخطاء السياسة التي ربما لم تكن في مستوي ما أنجزه السلاح الجمعة: 6 أكتوبر بالنسبة لجيلي كان أعظم من مجرد يوم ننتظره لنحتفل بالنصر الذي حلمنا به، وتمحورت حوله كل الآمال، وكان ما دونه لا يساوي شيئا. لم يكن الأمر حلما شخصيا، لكنه حلم 40 مليون مصري - تعدادنا آنذاك - الحلم الذي تقاسمه الجميع في ربوع مصر طولا وعرضا. كان يوم سبت، وكانت الدراسة قد بدأت، وفي طريق العودة بعد نهاية اليوم الدراسي، كان حال الشوارع مختلفا، وصورة البشر ليست هي التي اعتدناها حتي صباح ذاك اليوم البعيد. المعالم، الملامح، القسمات، النبرات،....،..... كل شيء ليس كمثله قبل ساعات. اجتمع الناس حول أجهزة الراديو والتليفزيون في المحال والمقاهي، لم تكن حملت اسم كافيه في هذا الزمن! البيان رقم (1)، كان يعني أن ثمة بيانات أخري قادمة. رويدا، رويدا، بات واضحا أن ساعة الثأر، لحظة الخلاص، وقت كسر الانكسار، وتسطير صفحات الانتصار قد حان. عبرنا الهزيمة، كلمتان تلخصان المشهد المهيب. يوم بكل العمر، والعمر لحظة، تأتي استثنائية لا تتكرر، هكذا حفر 6 أكتوبر أحداثه في القلوب والضمائر، في الوجدان والعقل، ولم تكن اللحظة قابلة للنسيان أو ممكنة الطمس أو التشويه، مهما كانت أخطاء السياسة التي ربما لم تكن في مستوي ما أنجزه السلاح، وكان يلامس حدود المعجزة. بالبلدي الفصيح: كان ومازال وسيظل 6 أكتوبر يوما حلوا، ولكن الحلو - كما يقول أولاد البلد - لا يكتمل! لكن ليسمحوا لي بالاختلاف: بل يمكن أن يكتمل عندما تنجلي كل الحقائق، ولا عذر فقد اقترب عمر الحدث من نصف القرن، وأفرجت الأطراف المباشرة وغير المباشرة عن الوثائق التي بحوزتها، صحيح هناك حذف لسطور هنا، أو جمل هناك، إلا أن السواد الأعظم من الوثائق أصبح متاحا، يقدم وجهة نظر العدو - مازلت أراه عدوا لأنه يرانا كذلك - ووجهات نظر غربية وشرقية، ومع ذلك فإن أقل القليل فقط المتاح لنا من معلومات، معظمها أقرب إلي الذكريات! علي الجانب الآخر، سعي دؤوب، حثيث، لا يكل صُناعه ولا يملون من محاولات تفريغ الإنجاز المصري من جوهره، واهالة التراب علي بعض الأدوار، والتشكيك حتي في النتيجة النهائية لما حدث في 6 أكتوبر. أجيال رحلت جريحة القلب.. أجيال رأت وسمعت - منها جيلي - ولم يتزعزع إيمانها بما عاصرته، وعايشته، وكان أجمل وأروع صفحة في حياتها، رغم كل المعاناة عندما اختطف من لا يستحق ثمارا هي من حق جميع المصريين. ثم هناك أجيال ولدت بعد أكتوبر 73، علي مدي 44 عاما، قرأت ما أتيح لها، لكن كان ثمة حرص علي تسميم عقولها، والتقليل من حجم أهم إنجاز مصري وعربي علي مدي قرون، ومن حق هؤلاء أن تطمئن قلوبهم. كيف؟ لا شيء سوي الحقيقة. لا شيء سوي كتابة تاريخ يستند إلي وثائق آن وقت الافراج عنها واتاحتها للمؤرخين والباحثين. ثمة محاولات، واجتهادات، ودراسات في حدود المتاح من معلومات ومعظمها اعتمد علي مشاهدات في حوارات، أو مذكرات لا يقدم صاحبها إلا رؤيته من زاوية محدودة، إلا أن ذلك لا يسعف مؤرخا، ولا يقدم لمراكز الأبحاث التاريخية الزاد الذي تتطلع إليه لإنجاز مهمتها علي أسس علمية منضبطة. لا يصح أن يُكتب تاريخنا بأقلام مدادها غير مبرأة عن الهوي والغرض، بل - مدادها - في أحيان كثيرة - مسمومة! لا عذر مقبولا لاستمرار غياب وثائق أكتوبر، ليس فقط الخاصة بالعمليات العسكرية، والخطط، وحتي ما حدث في الثغرة، وإنما أيضا علي الصعيدين السياسي والدبلوماسي من جهة، وما يتعلق بالجبهة الداخلية، والأدوار التي كانت ظهيرا ملتحما مع ما دار علي جبهة القتال من جهة أخري. بعد 44 عاما يبقي السؤال معلقا: متي يُكتب تاريخ أكتوبر الحقيقي، استنادا لوثائق مصرية، وبجهد بحثي مصري حتي تهدأ قلوب الشهداء، وتطمئن عقول أجيال بعضها شهد ما حدث، وأخري سمعت أو قرأت لكن ما حدث كان أعظم مما سمعوا أو قرأوا، ومن حق مصر والمصريين أن يقرأوا الحقيقة دون زيادة أو نقصان. إنها أمنية شخصية، بقدر ما هي أمنية شعب بأكمله. ضحايا المدن الجامعية السبت: قبل اكثرمن أربعين عاماً اجتزت- للمرة الأولي- بوابة المدينة الجامعة لسحب أوراق التنسيق، وبعد يومين عدت بالاستمارة حاملة رغباتي، وبعدها لم أدخلها إلا زائراً. جنيهات معدودات قيمة الاشتراك تضمن للطالب الاقامة والتغذية، ومعيشة تكفل له التفرغ للمذاكرة، وربما التفوق، فكثيرون كانوا يتطلعون لتجاوز تواضع مستواهم الطبقي، ولم يكن غير التعليم الجسر الكفيل بتحقيق هذه الرغبة. ومضت السنوات، وتجاوز قطار العمر محطات عدة، ولم اتذكر المدينة الجامعية إلا قبل أيام حينما قرأت عن مضاعفة رسوم الاقامة بها، وما صاحب القرار من ردود أفعال رافضة. استدعت ذاكرتي القريبة ساكنات بعض المدن الجامعية وبساطة مظهرن الذي يعكس مستويات اجتماعية متواضعة، لايحتاج إلي خيال واسع لتصور كيف دبرت اسرهن تكاليف الدراسة من كتب واقامة،....، ويكفي زيادة أي بند تتحمله أي أسرة في هزة تتفاوت شدتها باختلاف الدخل،لكن ومع معدلات الغلاء التي لاتقابلها زيادة في الدخل، فإن مارتبت عليه الاسر البسيطة أمورها، لايحتمل-بالقطع- مضاعفة أي بند. لا أعرف كيف فات من اتخذوا القرار النظر من تلك الزاوية، قبل أن تطاوعهم قلوبهم فيضاعفوا الرسوم. إذا كان المبرر أن كل شيء ارتفع ثمنه، أو ان هناك خطة لرفع مستوي ونوعية الخدمة، أو ان ما تم يأتي في سياق الاطار العام لسياسة الدولة واجراءات الاصلاح الاقتصادي. أياً كانت المبررات، فإن المسألة تتجاوز التبعات المباشرة الواقعة علي كاهل 30 ألف أسرة تقريباً، هم عدد من تستوعبهم المدن الجامعية، في الدائرة الأوسع، فإن الأمر يستدعي تساؤلاً ملحاً حول مصير الانفاق علي التعليم ومدي اتساقه مع نصوص الدستور بتعظيم الانفاق علي التعليم والصحة، بنسبة من الدخل القومي، وتساؤل آخر حول مكانة التعليم علي سلم الأولويات في الدولة، وتساؤل ثالث عن تكييف الاقامة بالمدن الجامعية باعتبارها خدمة مدعمة من عدمه. المسألة لايمكن أن تكون جرة قلم والسلام؟ فقط اتمني أن يراجع المجلس الأعلي للجامعات قراره، والأمنية التي يتطلع إليها الطلبة واسرهم أن يكون هناك قرار سياسي يعيد الوضع لأصله، ويكفي ما سوف يتحملونه من ارتفاع اسعار الانتقال من مقر الجامعة إلي موطنهم، وليس هذا سوي بند واحد من سلسلة بنود طالتها جميعاً ارتفاعات في ظل آلية للسوق لاتعمل إلا في اتجاه واحد! اتطلع- ومعي آلاف الأسر- إلي تدخل يتجاوز وزير التعليم العالي الذي وصف الزيادة في رسوم المدن الجامعية ب »البسيطة»، لأنه مادام يراها كذلك فلا أمل في تجاوبه أو استجابته مهما تعالت صرخات الاستغاثة! مولانا السكيورتي! الأحد : كنت اتحدث مع صديق حول ما قرأته من »اجتهادات» رأي صاحبها انها جديرة بأن تتحول إلي كتاب، يعرض فيه رؤيته للاعجاز التاريخي في القرآن بشأن مصر، وكان وجهي يعكس امارات الدهشة، وأكاد أضع علامات التعجب في نهايات جملي غير المكتوبة، وكيف ان الخلط بلغ أقصي مداه، واخترق كل السقوف، فيما يتعلق بالاجتهاد والفتوي. وفجأة كف صديقي عن الايماء برأسه، وامسك بزمام الحوار: - يا أخي.. إن صاحب الكتاب الذي تشير إليه في النهاية يعمل بالمحاماة لفترة طويلة، وطالع العديد من المراجع، وقبل هذا تخرج من الجامعة قبل عقود، ولكن ما رأيك في »مولانا السكيورتي»؟! ماذا تعني بهذا الوصف؟ - تعلم انني انتقلت مؤخراً للاقامة في القاهرة الجديدة. نعم، لكن ما علاقة ذلك بهذا الذي قلته ولم افهمه؟ - مهلاً.. إلا أن عليك أن تتحلي بقدر من الصبر وسعة الصدر، وان تعيرني سمعك حتي أفرغ من حكايتي. أعدك بذلك.. هات ما عندك. - شوف ياسيدي.. عندما انتقلت لسكني الجديد، لفت سمعي صوتا جميلا يرفع الأذان معظم الأوقات، وفي أول صلاة جمعة طالعت وجه المؤذن، شاب ثلاثيني، أسمر، فارع، شديد الأدب، إلا أن ما استوقفني انه يرتدي زي شركة أمن يبدو انها مسئولة عن عدد من العمارات السكنية، أو ربما أحد البنوك، المهم مرت عدة أسابيع، تعارفت خلالها علي بعض جيراني الجدد، وإذا بأحدهم -بعد أن صارت بيننا ألفة سريعة- يقول لي أنه استغلق عليه أحد أمور دينه، فعاد إلي الشيخ فلان. قاطعته: اياك أن تقول إنه نفسه »مولانا السكيورتي»؟! ابتسم، واصطنع الدهشة: ايش عرفك.. هل أنت ممن هم مكشوف عنهم الحجاب؟ ليس هذا وقت الهزل، ارجوك استرسل فقد أصبحت شغوفاً بمتابعة قصتك. - المهم ياسيدي.. إن جاري استنكر تماماً أي تشكيك في قدرة »مولانا السكيورتي» علي أن يدل بدلوه وان يفتي في أي أمر من أمور الدين، ثم قال وهو يضغط علي حروف كلماته، لعلمك أنه أكثر تفقهاً في الدين من 99% من البهوات الذين يسكنون في هذا الحي(!) عفواً: لايعني جهل هؤلاء بدينهم، أن يكون مرجعهم الفقهي هذا الشاب المتواضع في تعليمه وثقافته. - دعني اختلف معك، لقد سألته ذات مرة عن ما وراء تفقهه في الدين فقال إنه ورث عن أبيه مكتبة دينيه، كان قد ورثها بدوره عن جده، وأنه قرأ كل ما فيها من كتب، وجلب بعضها معه عندما نزح للقاهرة بحثا عن الرزق، وأنه »ينهل» منها حتي الآن. لاشك أنها مجموعة من الكتب الصفراء، والمشكلة فيكم أنتم، فلو كان بينكم من سعي إلي تثقيف نفسه دينياً، لما كان لهذا الشاب كل هذه المكانة. - طيب.. ما رأيك أنه أعتلي المنبر، ويحفظ الأبناء والأحفاد القرآن الكريم، وأحيانا يعطي دروساً بين العصر والمغرب، أو قبل صلاة العشاء، وكل من يعرفه لايملك إلا الثناء عليه والإعجاب بثقافته الدينية ومعرفته الواسعة بالعلوم الشرعية. ..................... لم أشأ الاستمرار في الحوار، فصاحبي وجيرانه وقعوا في بئر اعجاب بلا قرار ب »مولانا السكيورتي» ولن يفيد طول الحوار في إثنائهم عن اقتناعهم بعلم وفضل الشاب الذي أغناهم عن القراءة في دينهم، أو السعي لأخذ العلم عن أهله. الحكاية تعكس اختلالات مجتمعية خطيرة، وتفضح أدوراً غائبة، وتدق اجراساً علنا نتنبه جميعاً لأمور جلل داهمتنا تحول الإيمان والعلاقة بالخالق العظيم إلي مجرد طقوس، وتدين شكلي، ومساعي مشوهة لمعرفة أصول الدين، بعد أن توسد الأمر غير أهله. ومضات أروع لحظات الاكتشاف، عندما تُبحر في ذاتك بقارب شراعه الحقيقة. الاصرار علي النقل يمحو فضائل العقل. الخسارة الأكبر، أن يعزو من لم يأخذ بالأسباب فشله لقلة الحظ. ادراك الجمال من حولنا، يبدأ من روح صافية. من يحترف التغريد منفرداً، لا يمكن أن يحلق مع سرب. محبة الآخرين الطريق الملكي للتصالح مع الكون. في الصراحة بعض القسوة التي تشبه دواءْ مراً بلا بديل! في المآسي، لا ننتبه إلي المقدمات إلا بعد الاصطدام بالنتائج! أروع من حاسة البصر، نعمة البصيرة.