فى الوقت الذى وقف مشرئباً منبهراً بذلك البناء الرائع, الذى لم يسبق لأحد أن امتلك شبيهه على وجه الأرض جاءته تلك الفكرة العبقرية للاحتفاظ بذلك التفرد مدى الحياة, فشرع على الفورفى تنفيذها وأمر بإلقاء المهندس الذى شيّده من أعلى نقطه فيه ليضمن بذلك عدم قيامه بتشيد مثيله لأحد سواه! قصة قديمة جداً كلنا يعرفها أو على الأقل يحتفظ فى ذاكرته بعبارة شهيرة جداً هى مفاد تلك القصة وملخصها, جرت مجرى الأمثال فيما بعد حتى وصلت إلينا, وكثيراً ما نحتاج إليها فى هذا الزمان, فمن دون تفكير نهرع إليها مراراً وتكراراً كلما اصطدمت سذاجتنا بحركات "ندالة" من البعض وما أكثرها فى هذه الأيام, فنقول دون ترو "خيراً تعمل شراً تلقى", وتطفو على سطح الذاكرة فى التو واللحظة تلك العبارة الشهيرة جداً والتى يترجمها اللسان فوراً إلى "جزاء سنمار", وسنمار هذا هو المهندس القديم المبدع الذى شّيد ذلك القصر المهيب على عهد الملك النعمان صاحب فكرة إلقائه من أعلى البناء الذى طوى الليالى والأيام وربما السنين فى تصميمه وتنفيذه! وعلى طريقة الملك النعمان والذى لم يكن - للأمانة- مصرياً سار كثيرون ممن أعجبهم نهجه وأفكاره العبقرية, وفى مصر أم الدنيا تجسد ذلك النهج على كافة المستويات وأرفعها, فعلى امتداد تاريخنا الحديث الزاخر بقصص البطولة وملاحم النضال سطعت أماكن بعينها وأناس بالتحديد, سُطرت بطولاتهم بحروف من نور فى سجل الوطن وباتوا رمزاً للوطنية والفداء, أماكن كهذه وأناس كهؤلاء كان من الطبيعى والمنطقى أن توضع فى العيون قبل القلوب, لكن العكس هو ما يحدث دائماً فى مصرنا المحروسة والتى لولاهم ما كانت محروسة أبداً, فبدلاً من أن يمنح هؤلاء الأبطال الأوسمة والنياشين ونضعهم فوق الرؤوس كوفئوا بجزاء سنمار من بلادهم وعلى أرضهم التى أقسموا إما تحريرها وإما الموت دونها, فحملوا أرواحهم على أكفهم وقدموا حبات قلوبهم راضين مرضيين قرباناً للمجد ومهراً للحرية, كتبوا بدمائهم الزكية أروع ملاحم النصر, ففى كل بيت حكاية وفى كل قلب ذكرى لابن أوأب أو أخ أو عم أو خال, منهم من عاد مغرداًً بأهازيج النصر ومنهم "أحياء عند ربهم يرزقون"!! صفحات وصفحات مضيئة يكتظ بها سجل الوطن كوفىء مسطروها وأهلوهم بالتجاهل والاهمال جيلاً بعد جيل, وما حدث مع بدو سيناء الأعزاء على مر السنين والذى وصل إلى حد الإذلال وحدا بهم إلى الاعتصام على الحدود المرة تلو الآخرى, وهم من هم فى التضحية والفداء ولا أحد ينكر كائناً من كان على امتداد أرض المحروسة دور هؤلاء الأبطال المنقوشة بطولاتهم فى أنصع صفحات التاريخ, وتشهد بذلك كل حبة رمل على أرض سيناء الحبيبة .. تماماً هو ما حدث مع أهالى مدن القناة والذى توج بإلغاء المنطقة الحرة فى بورسعيد وتشريد عشرات بل مئات الآلاف من البشر وتركهم نهباً للبطالة التى سحقت مقدراتهم وقوضت اسقرار أسرهم, وهم من هم أيضاً فى التضحية والفداء وأصحاب فضل لايمكن أن ينكر فى النصر, تلك المدن الباسلة التى بات يردد صغارها قبل كبارها ونساؤها قبل رجالها تحت دوى المدافع وأزيز الطائرات بكل شجاعة وعشق للوطن "يابيوت السويس يابيوت مدينتى.. استشهد تحتك وتعيشى انتى", تلك الأنشودة الرائعة التى لم تزل إلى تلك اللحظة تزلزل الوجدان وتخطفنا إالى ذكريات بعيدة جميلة لم نعشها ولم تعشها أجيال كثيرة متواترة مثلنا كلما أخطأ اعلامنا الحر النزيه وحن علينا بإذاعتها فى المناسبات خلسة, وتنتشلنا ولو للحظات سماعها من مستنقع الضياع وفقدان الهوية الذى ألقانا بأعماقه ذلك القهر السلطوى الممارس علينا, والممتد على مدى عقود كثيرة, والذى أفقدنا بدوره الأمل فى الالتفاف حول قضية قومية بعينها ذات يوم ولو على المدى البعيد.. تماماً هو نفسه ما حدث مع أهالى البرلس, وتلك صفحة مضيئة ومهمة أخرى فى تاريخ مصر لكنها مطوية, وربما لايعلم الكثيرون عنها شيئاً من حال الأصل, صفحة تحكى أصالة شعب وعزة وطن سطرتها البحرية المصرية وأهالى البرلس فى الرابع من نوفمبر بمداد من ذهب, إنها "معركة البرلس البحرية", والتى دارت رحاها فى عرض البحر إبان العدوان الثلاثى على مصر عام56 على بعد عشرة أميال بحرية شمالى شرق الفنار, قبالة قرية "برج البرلس" التى هرع أهلها عن بكرة أبيهم للمشاركة فى الملحمة, ضاربين أروع الأمثلة على البذل والجود والعطاء فى واحدة من أروع ملاحم النصر, اليوم الذى اتخذته المحافظة عيداً قومياً لها تبدأ احتفالها به على أرض القرية ولمدة وجيزة مع جمع من الضيوف الذين تتكبد المحافظة الكثير جداً فى سبيل تكرمهم وتعطفهم وقبولهم المجىء إلى هذه القرية المنسية مهد الأحداث, ثم ينتقل الموكب المهيب بعد ذلك إلى الأماكن التى تليق بأفراده حيث المهرجانات والموائد العامرة بكل ما لذ وطاب, ناسين القرية وأهل القرية واللى خلفوا أهل القرية, وتستمر الاحتفالات على هذا النحو لأيام كثيرة وربما على مدى الشهر كله, نفس الطقوس تتكرر كل عام, تبدأ وتنتهى وتمر السنون دون بارقة أمل واحدة تؤكد للأهالى أن أحداً سيعترف بهم يوماً وبحقهم فى حياة آدمية كريمة ولو بالحدود الدنيا للآدمية والكرامة, تلك القرية ذاتها التى اكتشفها الاعلام فجأةً حينما انطلقت من على أرضها الشرارة الأولى لما عرف مؤخراً بثورة العطش التى اجتاحت البلاد طولاً وعرضاً, حتى قلب العاصمة الموجوع بالعشوائيات المنسية, إنها قرية "برج البرلس" التى تموت عطشاً وينوء كاهل أهلها أبناء وأحفاد الأبطال بالمشكلات التى تقصم الظهر, حيث إنها محرومة من كافة الخدمات الأساسية منذ أن ظهرت إلى حيز الوجود وحتى لحظته وتاريخه, ورغم كل هذا القهر الذى يعانيه الأهالى يخرجون كل عام فى تظاهرة حب وافتخارلاستقبال ضيوف العيد القومى وتحيتهم وتقديم واجب الضيافة الذى يعتبرونه فرضاً عليهم, وبكل البشاشة والطيبة المتأصلة فى المصريين من قديم الأزل يروون تفاصيل هذه الملحمة المتوارثة عن الأباء والأجداد والتى يحفظونها عن ظهر قلب, حاملين بأيديهم وريقات بسيطة تحوى مطالب أبسط , والنتيجة الدائمة هى المزيد من التجاهل والاهمال, الأمر الذى أدى فى النهاية إلى هذا الانفجار الذى ولده الكبت على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان لدى أهالى هذة القرية وحملهم إلى الاعتصام فى نهر الطريق الدولى الساحلى هرباً من العطش واحتجاجاً على تجاهل واهمال المسئولين لهم, مطالبين بأبسط حقوقهم الآدمية فى سابقة أقل ما يقال عنها أنها فضيحة إنسانية بكل المقاييس!! والسؤال الذى يطرح نفسه بشدة: متى تتخلى المحافظات عن طقوسها المستفزة لمشاعر الناس؟ لم لايكون احتفالاً "على القد"؟ داخل ديوان عام المحافظة مثلاً وتغلق أبواباً للعواصف والأعاصير, وتوفر كل هذه المبالغ التى تهدر فى الاحتفالات والمهرجانات والتهانى فى الصحف والمجلات, وبدلاً من أن يبحث المسئول عن بند يضع تحته تكلفة هذه التهنئة التى لا تقدم ولا تؤخر يسعى الجميع جاهداً لتخفيف شىء من الأعباء التى تثقل كاهل الناس, فالناس أولى بكل هذه الاموال التى تذهب أدراج الرياح, وليخرج كل مسئول من الشارع الرئيسى للمحافظة أو المدينة الذى يئن من الأشجار التى تزرع وتقلع ويكاد يصرخ ترابه من تبديل الأرصفة وتورمت خدود أسواره من لصق السراميك مرة بعد مرة حسب ذوق الباشا المسئول, فى حين أن هناك وربما على مقربة جداً تجمعات بشرية كل حلمها فى الحياة طريق ممهد يربطها بمن حولها من بشر, أو حنفية مياة شرب واحدة, أو خط كهرباء فرد, أما الصرف الصحى فهو حلم المرفهين الذى لم يجرؤوا أن يحلموه!! [email protected]