نعم.. توقعت اندلاع الثورة ضد النظام السابق، لكني كنت أنتظر ان تقوم بها طبقات الشعب المطحونة في الدويقة وسائر العشوائيات، لأني كنت -ليل نهار- أسمع أنينها عاليا في وسائل الإعلام، سمعتهم يقولون أنهم جوعي ومشردون، وهم -بذلك- يدحضون كلام الرئيس السابق، وادعاءه بانه ينحاز الي طبقة الفقراء، أي أن الفقراء كانوا يفضحون أكاذيب النظام السابق، وبوصفي مؤمنا بالاشتراكية الديمقراطية، كانت صرخاتهم تصم أذني، ولكني فوجئت بأن الطبقة التي ثارت علي حكم مبارك كانت من المتعلمين الذين يستخدمون شبكة المعلومات الدولية »الانترنت« ويتمتعون بمستوي معيشي معقول، ولفت نظري أن عددا من المتظاهرين في ميدان التحرير، كانوا يحملون لافتات باللغة الانجليزية مثل »اللعبة انتهت«، فضلا عن انهم عند الحديث في الفضائيات كانت اللغة الانجليزية تسعفهم أكثر من اللغة العربية، أما الطبقات الشعبية فقد جاء اشتراكها في وقت لاحق، ولعل هذا يفسر لنا الوجه المشرف، والحضاري والسلمي للثورة. مشارك أم متفرج؟!! وهل كان موقفك عند قيام الثورة إيجابيا أم سلبيا؟ أو بمعني آخر هل كنت مشاركا أم متفرجا؟ أنا رجل مسن، ولا أتحمل المشاركة الفعلية في المظاهرات، وهذا هو السبب، في امتناعي عن الذهاب الي ميدان التحرير، ولكنني كنت أراقب الأحداث لحظة بلحظة، ودافعت عن هذه الثورة في جلساتي الخاصة، وفي المجالس التي عقدتها كلية الألسن بجامعة عين شمس -حيث أعمل بها أستاذا متفرغا، ومعني ذلك أنني شاركت في هذه الثورة بروحي، ولم أشارك فيها بجسدي، وأستطيع الزعم بانني كنت في كل حرف كتبته أراهن علي المستقبل، وأدافع -باستماتة- عن حرية التعبير بجميع أشكالها، وبهذا المعني العام، يمكنني أن أقول بغير ادعاء، انني اشتركت اشتراكا ايجابيا في صنع مناخ يؤمن بالحرية، والانفتاح الفكري. الثورة المضادة وما رأيك فيما يسمي بالثورة المضادة؟ حذرت المتظاهرين منها منذ الأيام الأولي، علي صفحات بعض الصحف والمجلات، وكنت أنبه الشباب الي الأخطار المحدقة بهم، وقد تعلمت من تاريخ الثورات العالمية، ان لكل ثورة ثورة مضادة تهدف الي إجهاضها لصالح المنتفعين من النظام السابق، حدث هذا في الثورة الفرنسية التي قامت للإطاحة بالإقطاع، وطبقة النبلاء لصالح الطبقة البرجوازية الوليدة، شعرت بهذه الثورة المضادة بعد انسحاب الشرطة المفاجيء من كل مكان في هذا البلد، كما شعرت بها بشكل واضح بعد موقعة الجمل، وما تلاها من أحداث، وعندما قامت الثورة البلشفية في روسيا، تصدي لها أعداؤها من النبلاء المعروفين باسم الروس البيض الذين وجدوا دعما عسكريا من أوروبا الغربية، لقمع الثورة في مهدها، ولكن الثورة المضادة لم تنجح لعدة أسباب منها ان هذه الحملة العسكرية كانت قليلة العدد والعتاد، والحقيقة انها مفارقة ما بعدها مفارقة، ان يحرص شباب التحرير علي ان تكون ثورتهم سلمية بيضاء، في حين سعي النظام السابق الي الترويع، والتدمير والقتل، وصحيح ان الثورة المضادة، في معظمها من صنع النظام القديم، إلا ان هذا النظام السابق ليس وحده المسئول عن إشاعة الفوضي، فالجهل أحيانا يصبح عاملا مساعدا علي الثورة المضادة، وسوف أضرب مثلين علي ذلك، الأول انتشار الاعتصامات الفئوية التي تعطل عجلة الانتاج، ومن الجائز ان النظام السابق هو الذي يدعو إليها، أو علي أقل تقدير يشجع عليها لوأد الثورة، ومن الجائز ايضا ان بعض المعتصمين يتصرفون بسلامة نية، انطلاقا من رغبتهم في الحصول علي مزايا فئوية، ولكن جهل هؤلاء المعتصمين وقصر نظرهم، وربما أنانيتهم لا تجعلهم يشعرون بان الاعتصامات في هذا الوقت قد تؤدي -ليس فقط- إلي إجهاض الثورة، بل إلي خراب عام يعصف بالأخضر واليابس، ويحضرني هنا حديث لسائق سيارة أجرة أكد لي فيه ان الجهل قد يضر بالثورة أبلغ الضرر، حيث قال لي هذا السائق -الذي أثرت المظاهرات علي مصلحته المادية- بانفعال شديد واقتناع كامل: ان حل المشكلة الاقتصادية يكمن في توسع الدولة في طبع الأوراق النقدية، وعبثا حاولت اقناعه بأن الحل يكمن في زيادة الانتاج، لان طبع المزيد من أوراق النقد دون إنتاج سوف يؤدي الي التضخم، والمثل الآخر هو أحداث الاعتداء علي المسيحيين ودور العبادة، التي ترجع إلي نقص في الوعي الثقافي عند عامة الناس، بدليل ان كثيرا من هذه الاعتداءات علي المسيحيين حدثت في أيام الرئيس السابق الذي زعم انه يحمي الاستقرار والوحدة الوطنية. هل تظن ان محاربة الفساد هي الملف الأوحد علي طاولة الإصلاح؟ طبعا لا، فلابد من إصلاح فساد الفكر، والفكر هو الذي يدفع الانسان الي الفعل، ولا صلاح لفساد العقل غير التعليم الجيد، وترسيخ مفاهيم الديمقراطية والدولة المدنية، ولهذا فانني أعجز عن فهم اتجاهات بعض التيارات الدينية السلفية المتحجرة، عندما تتبني شعارات »الليبرالية« والدولة المدنية، وأنا شخصيا لا أوافق علي اقتصاد السوق الحر، ولكوني أقول انني غير متفق مع التصريح الأخير لرئيس الوزراء الذي أكد خلاله التمسك باقتصاد السوق، بل أدعو الي ضوابط لكبح جماحه، حتي لا تباع الدولة وما عليها مرة أخري لغير أصحابها، وكم تمنيت ان يدافع الدكتور عصام شرف عن اقتصاد السوق مشروطا بفرض الضرائب التصاعدية التي تتطلبها العدالة الاجتماعية. لم تكن حاجزا طوال رحلتك الممتدة الثرية هل واجهتك مشكلات وعوائق بسبب انك مسيحي؟ اعتقد انكما أقدر مني علي الإجابة عن هذا السؤال، وعلي فكرة حتي هذه اللحظة لم يصل الي ذهني ان الانسان حين يكون قبطيا يعد ذلك حاجزا بالنسبة اليه، وكل ما أعرفه ان سلامة موسي ذلك المفكر الذي يفوق شقيقي لويس عوض لم يحظ بالشهرة بسبب انه قبطي، وشهرته في أوساط المسلمين أكبر رغم آرائه التي كانت كثيرا ما تصطدم بالتقاليد التي كانت تسود المجتمع. وخروجا من أجواء الثورة الساخنة.. نحاول الاقتراب ولو لبوصات قليلة من مشوار حياة هذا المفكر.. وكيف كان لثقافته ودراسته للأدب الانجليزي دور كبير في تكوين رؤاه المستقبلية وكيفية التعامل مع كل المستجدات سواء علي الساحة الثقافية أو الوطنية. دعنا ننتقل معك إلي زواية أخري من هذا الحوار نرجو أن تحدثنا عن بداياتك؟ الحقيقة لقد كنت محظوظا أكثر من غيري، بسبب ان والدي يحب القراءة، ولذلك كانت لديه مكتبة كبيرة خاصة باللغة الانجليزية، لانه كان في الأصل مترجما في السودان مع الإنجليز، وأنا لا أذكر أبي إلا قارئا، فالصورة الوحيدة التي لا تزال مطبوعة في مخيلتي عن أبي، هي انه ممسك بكتاب كي يقرأه، أي انه في حالة قراءة دائما. معني ذلك ان ثقافتك انجليزية في الأصل؟ هذا صحيح، ودعني أعود الي الحديث، وبالاضافة الي ما ذكرته لك، فأنا محظوظ ايضا لكوني شقيق الدكتور لويس عوض، فقد كان يوجهني حين يجيء إلينا في المنيا من أجل زيارة العائلة عندما كان يعمل معيدا في الجامعة، وذلك لقضاء الإجازة الصيفية - الي مسار الثقافة ومصادرها، خاصة في اللغة العربية، حيث جعلني أقرأ في وقت مبكر جدا مؤلفات سلامة موسي، والدكتور عبدالرحمن بدوي، وترجماته، فضلا عن كتب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وتوفيق الحكيم الذي قرأت كل أعماله، وعمري لم يتجاوز 41 عاما، إذن عشت بين مصدرين مهمين من الثقافة: الأول أبي وثقافته الانجليزية، والثاني أخي لويس وثقافته العربية، وبالمناسبة يفصل بين عمرينا 51 عاما، وأنا من مواليد عام 9291. أخي لا يقرأ كتبي!! وهل تأثرت بمؤلفات شقيقك لويس عوض؟ لقد تأثرت بمؤلفاته الأولي والمجهولة عند كثيرين، فقد ألفها وهو في الجامعة، وكنت وقتها تلميذا في القسم الإنجليزي بالكلية، حيث كنت أراجع تجارب طبع هذه الكتب قبل نشرها، مثل كتاب »هوميروس«، و»يوميات طالب بعثة« الذي كتبه بالعامية، إضافة الي كتاب »التجربة الشعرية«. وأنت هل كنت تهدي إلي شقيقك الراحل الدكتور لويس عوض كتبك؟ نعم.. وكان لا يقرأها»!!« وهل استفدت من شهرة ومكانة شقيقك الناقد الكبير؟ لا، علي الإطلاق، بل دعوني أقولها بصراحة، لقد أضرت بي هذه العلاقة »!!«. كيف؟ لويس عوض كان له أعداء كثيرون وأقوياء، كما كان له في الوقت نفسه أصدقاء لكن ضعفاء، وهم اليساريون، والجميع يعرفون ان الدكتور لويس عوض قبل ان يستبعدوه من الجامعة، كان مرشحا لرئاسة قسم اللغة الانجليزية وآدابها بجامعة القاهرة، وكانت تدعي -آنذاك- بجامعة فؤاد الأول، ولم يعمر شقيقي طويلا في هذا المنصب أكثر من عدة أشهر، وحل محله الدكتور رشاد رشدي، وكان في حالة عداء كامل مع أخي، وكنت قد حصلت في ذلك الوقت علي درجة الليسانس، وانتهيت تقريبا من إعداد رسالة »الماجستير« ولم يتبق لي منها سوي المناقشة، ولاشك في ان هذا العداء قد امتد الي جهتي، وقد أبلغني بذلك الدكتور لويس نفسه مؤكدا علي انني لن أنال درجة الماجستير في ظل هذا العداء، الأمر الذي جعلني أنقل مناقشتها الي جامعة »عين شمس« حتي أهرب من هذا العداء، وبالتالي أكمل مسيرتي نحو الدكتوراه أيضا، وبعد فترة اكتشفت -للأسف- ان هذا العداء قد امتد إلي جامعة عين شمس ايضا»!!«. وما رأيك فيما يردده البعض الآن من التفرقة بين مواطن وآخر علي أساس ديني؟ هذه الحكاية ليس لها وجود عندي علي الإطلاق، بدليل انني أدرس للمسلمين أكثر من المسيحيين، وتلاميذي المسلمون يطمئنون إلي كثيرا، وحين أتعامل مع الأشخاص يهمني في الأمر الناحية الإنسانية، أما الديانة فليست لي علاقة بها، إنني أنظر فقط الي أفكار الشخصية التي أتعامل معها. وهل انت راض عما قدمته من منجزات وأعمال في دنيا الفكر والثقافة؟ اعتقد انني أنجزت ما يقرب من سبعين كتابا باللغة العربية تأليفا، وكلها موضوعات جديدة أتحدي بها العالم العربي كله، ويكفيني انني صاحب الفضل في تعريف العالم العربي بمحاكم التفتيش و»الهولوكوست« التي لم تقتصر أبدا علي اليهود، بل طالت كل الجنسيات، ومنهم مصريون ذهبوا ضحايا للمحارق النازية. وكم عدد المصريين الذين راحوا ضحية »الهولوكوست«؟ نحو ستة مصريين في معسكرين مختلفين. وماذا كانت علاقتهم بهذه المعتقلات النازية؟ تصادف وجودهم هناك »!!«. ومن هم تلاميذ الدكتور رمسيس عوض؟ هم غير ظاهرين للعيان، لانهم الدارسون في الجامعة، وهؤلاء داخل الحرم الجامعي، وعندما يعملون في مجال الإعلام يذكرونني بالخير. ولماذا لم تطرق أبواب الصحافة حتي تنال بعض شهرة شقيقك الدكتور لويس عوض؟ لم أفكر في ذلك، لانني مدرك تماما ان عمل أخي في الصحافة كان سببا في تأخره في حياتنا الفكرية، فلو كان قد تفرغ لعمله الأكاديمي لكان له شأن كبير، وعلي فكرة انني أخاطب دائما المستقبل ولا أخاطب الماضي، وأري ان الجري وراء الإعلام ما هو إلا شهرة مؤقتة وزائفة.