نحن نقرر الواقع الماثل أمامنا الآن، إذا ما قلنا ان رياح الثورة التي هبت علي مصر في الخامس والعشرين من يناير الماضي مع تفجر انتفاضة الشباب في ميدان التحرير، سرعان ما تحولت لتصبح اعصارا قويا يجتاح البلاد كلها بعد ان التفت حولها الجماهير بكل طوائفها السياسية، والاجتماعية، والثقافية، معلقة عليها آمالا عراضا في الحرية والديمقراطية، والكرامة والعدالة الاجتماعية. ونحن لا نخالف الواقع إذا ما أكدنا ان انتفاضة الشباب رغم شدتها وقوة تأثيرها، ونبل أهدافها ما كان لها علي الاطلاق ان تتحول الي ثورة حقيقية، لولا هذا الاحتشاد الجماهيري والشعبي الضخم الذي احتواها في داخله ليجعل منها ضمير أمة، وصحوة شعب وليست مجرد ثورة شبابية صادقة ونبيلة مهما بلغت درجة سخونتها وقوة اندفاعها وصدق مشاعرها. ونستطيع القول دون ادني مبالغة علي الاطلاق، ان الموقف الوطني الرائع والمسئول للقوات المسلحة المصرية تجاه هذه الثورة ومنذ اللحظة الاولي لتفجرها هو الذي وفر لها الحماية اللازمة والمناخ المواتي للتعبير الصادق والصحيح عن نفسها والوصول بأكبر قدر من الامان والسلامة الي الصورة التي اصبحت عليها الآن كتيار جارف يطالب بالتغيير للافضل ويسعي للاطاحة بجميع الظواهر السلبية والسلوكيات الخاطئة، والقيم البالية ويفتح الطريق واسعا امام التحول الديمقراطي لدولة مدنية حديثة ومتطورة تحارب التخلف والفقر وتقضي علي الفساد والتمييز بجميع صوره وألوانه.
ومن اجل ذلك رأينا كم المتغيرات الحقيقية والجسيمة التي انجزتها هذه الثورة ناصعة البياض نبيلة الاهداف، شريفة المقاصد خلال الايام القلية الماضية، والتي تسارعت وتزاحمت فيها الاحداث والوقائع بصورة لم يتوقعها احد مهما بلغ من جموح الخيال، أو صدق التنبؤ، أو القدرة علي استشراف آفاق المستقبل القريب او البعيد. واذا كان لنا أن نشير الي جسامة التغيير الذي حدث بالفعل وضخامة وعمق ما وقع وما رأيناه جاريا امام أعيننا في كل لحظة وكل يوم منذ بدأ اعصار الثورة وزلزالها الهادر في كل مكان من ارض مصر، فلابد ان نذكر علي رأسها تنحي الرئيس مبارك الذي اصبح اول رئيس سابق لمصر بعد الرئيس محمد نجيب، ثم تولي المجلس الاعلي للقوات المسلحة جميع شئون البلاد، وتعطيل العمل بالدستور، وبدء العمل علي تعديل المواد اللازم تعديلها لفتح الطريق لانتخابات رئاسية صحيحة تقوم علي ضوابط موضوعية وطبيعية تحكم الترشح للرئاسة، وقصر مدة الرئيس علي دورتين فقط ، ثم حل مجلسي الشعب والشوري المطعون في صحة انتخاب أعضائها، بالاضافة الي التشكيل الجديد لحكومة تسيير الاعمال والتي ضمت مجموعة متنوعة من الاطياف السياسية والفكرية في المجتمع. وتلك بالقطع متغيرات جسيمة وضخمة وعميقة كما قلنا ويزيد من قيمتها وتأثيرها انها حدثت في فترة زمنية قليلة حيث وقعت خلال بضعة ايام يمكن عدها علي الاصابع وهي بالقطع فترة بالغة القصر في عمر الزمن، ولكن هكذا دائما حال الثورات الشعبية بما يتوافر لها من قوة اندفاع، ورغبة جارفة في تحقيق أهدافها وانجاز مقاصدها.
ولكن دعونا نعترف ونقول بكل الصراحة والوضوح إن مفجري الثورة بما هم عليه من طبيعة الشباب الوثابة، والمتعجلة، يرون ان هناك الكثير من المطالب لم تتحقق بعد، وأن هناك العديد من الطموحات والاهداف لم تتحول إلي واقع علي الارض، ويرون ان عجلة التغيير لابد ان تتسارع أكثر من ذلك، وان محرك الاداء يجب ان يكون أكثر انطلاقا واعظم اثرا مما هو عليه الآن،...، بل ويشعرون أن الأمور أكثر بطئا مما ينبغي ان تكون عليه في ظل ثورتهم التي تحولت الي ثورة كل الشعب، ومطالبهم التي اصبحت مطالب كل ابناء الوطن. ونحن نقول في ذلك، ان الشباب معهم كل الحق في مشاعرهم تلك، وهذا هو الطبيعي والمتوقع، وان ما نراه نحن ابناء الجيل الأكبر سنا، يسير بسرعة كبيرة وتدفق هائل، يرونه هم بطيء الحركة، قليل التدفق، وفقا لمعايير وقواعد جيلهم، الذي كسر جميع القيود، وتخطي جميع الحواجز والعوائق، نتيجة ما تربي عليه، وتعامل معه من ادوات التقدم التكنولوجي الهائل والتواصل الإنساني العابر للقارات، الذي غير بالقطع مفاهيم الحياة وقواعد التعامل بما يختلف كليا عما درجنا عليه نحن من مفاهيم ونظم، وهو ما يحتاج منا الي جهد ليس بالقليل كي نكون علي قدر حسن ظنهم بنا، وأملهم فينا. ومن هنا فإن الحكمة تقتضي منا ان نتفهم طبيعة تعجلهم وان نقر بضرورة محاولة التوافق مع ذلك، والتواؤم معه، في ضوء إيماننا الكامل بمشروعية هذه المطالب، وتلك الأهداف، خاصة انها تنادي بما نؤمن به جميعا، وما نسعي كلنا لتحقيقه والوصول اليه من جدية وديمقراطية وعدالة اجتماعية، في ظل الدولة المدنية الحديثة.
ولكننا ونحن نؤكد علي ذلك، ونسعي إليه، يجب ان نتنبه لضرورة الارتقاء الي نبل وشرف الثورة، ونصاعة توجهاتها، وان نقاوم بكل الاصرار الانزلاق الي مناطق الخطر الشائكة التي يحاول البعض بعدم الفهم، او سوء القصد، وفساد الطوية جرنا إليها، ودفعنا للانزلاق إليها، أو السقوط فيها، بما يهدد أفضل وأجمل ما في الثورة، وهو نقاء ونبل وطهارة طليعتها الشابة، ومقدمتها المتوهجة. والقصد هنا هو الاشارة الواضحة للمحاولات المستمرة والمشبوهة من البعض لزرع بذور الانقسام والشقاق في صفوف الناس، وبين ابناء الوطن الذين التفوا جميعا حول الثورة، وذلك بتصنيفهم إلي موالاة ومعارضة، ومنح بعضهم صكوك الولاء للثورة، ودمغ البعض الآخر بتهمة العداء للثورة، وذلك طبقا لأهوائهم، ووفقا لقبولهم لهذا، أو كراهيتهم لذاك، وفي غيبة كاملة للمقاييس والمعايير الموضوعية والشريفة والعادلة،...، وهم في ذلك يمارسون نوعا خطرا من »المكارثية« الممقوتة، ومحاكم التفتيش، في أبشع صورها، ويشيعون الفرقة والتشرذم بين المواطنين. هذه واحدة، أما الثانية، فهي ذلك السيل الجارف من الشائعات المغرضة، والاتهامات المرسلة، التي يشيعها البعض دون ظل من حقيقة، ويلقيها البعض الآخر جزافا، دون سند أو دليل، وهو ما يخلق حالة من فقدان الثقة والشك، في كل شيء، وكل الناس، ويفتح الباب لإشاعة روح الاحباط واليأس، وفقدان الامل لدي عموم الناس، والشباب بالذات، وذلك ليس جيدا، ولا مطلوبا.
ونأتي بعد ذلك الي الخطر الثالث، والذي نراه جسيما ولابد من مواجهته بكل الوعي، والتصدي له بكل الحكمة، والحسم والاصرار في ذات الوقت، وهو تلك الظاهرة التي انتشرت في جميع مواقع العمل الانتاجي والخدمي، وفي جميع المؤسسات والهيئات بطول البلاد وعرضها وتمثلت في المطالب الفئوية، التي يتعجل اصحابها الاستجابة لها وتحقيقها فورا، وهو ما يلقي بأعباء هائلة علي ادارات هذه المؤسسات والهيئات، ويسبب عطلا وارتباكا كبيرا في دولاب العمل ومواقع الانتاج بما يمثل استنزافا كبيرا وضخما للاقتصاد، في وقت نحتاج فيه الي عكس ذلك علي طول الخط. وفي ذلك نقول بوضوح لا يقبل اللبس او سوء الفهم انه رغم تفهمنا الكامل للعديد من الحقوق المهدرة لفئات كثيرة من العاملين في الدولة والقطاع الخاص،..، وبالرغم من اقتناعنا الكامل بضرورة الوفاء بهذه الحقوق وضرورة رفع المظالم عن كل المظلومين، الا انه من الضروري والهام ان نتحلي جميعا بالقدر الواجب من الوعي والحكمة، والحب لوطننا، بحيث ندرك خطورة الاستمرار في هذه الحالة من الاحتجاج التي تسود الجميع، وتسيطر علي جميع العاملين وتدفعهم للمطالبة الفورية بتصحيح كل الاوضاع، ورفع جميع المظالم مرة واحدة، والحصول علي كل الحقوق في غمضة عين. وكما قلنا قبل ذلك ونكرر الآن، لابد ان ندرك انه رغم عدالة هذه المطالب الا ان الكثير منها يصعب تحقيقه بين يوم وليلة وان الله وحده هو القادر علي ان يقول للشيء كن فيكون،..، وعلينا ان نعي ان التوقف عن العمل، والتفرغ للاحتجاج وتعطيل الانتاج، لا يمكن ان يتيح لأحد التحرك للأمام، أو الوفاء بالمطالب رغم مشروعيتها وعدالتها،...، ولكن السبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو العمل بكل الجدية والأمانة، والسعي لزيادة الانتاج وجودته بكل السبل الممكنة.
أقول ذلك بكل الوضوح، ودون تردد، إيمانا مني بأن الثورة الشريفة والنبيلة التي فجرها شباب مصر والتف حولها كل ابناء الوطن تستحق منا جميعا ان نرتفع فوق جميع الاهواء الشخصية والمصالح الذاتية، والفئوية، وان نتحول جميعا إلي طاقة ايجابية منتجة وخلاقة تسعي لتحقيق جميع المطالب والاهداف السامية التي نادت بها الثورة وقامت من اجلها.