في صباح طيب - وقبل مطالعتي اليومية للصحف - رن الهاتف في بيتي غير مرة.. لأجد من يخبرني ان اديبنا العالمي حائز نوبل قد ذكرني في »وجهة نظر« للكاتب الكبير الاستاذ محمد سلماوي الذي خصص هذه المساحة في الاهرام اسبوعيا لحواراته مع الاستاذ نجيب محفوظ الذي قال: »ان الطب اهدي الادب ثلاثة هم ابراهيم ناجي ويوسف ادريس وأحمد تيمور«. وبمطالعتي لهذه الجملة وجدتني احلق في افق من السعادة والفخار لم احلق في مثله من قبل.. فالعظيم نجيب محفوظ يضمني في سطر واحد مع كبيرين من كبار هذه الأمة.. الامر الذي افضي بي توا إلي قصيدة اطرح فيها رؤيتي الشعرية لما قدمه الروائي الاعظم في تاريخنا: »تصفحت كراسة النيل بين يديه.. وكانت رشيد يميني ودمياط نحو اليسار.. فصوبني واستدار.. وسار بطول الطريق ينادي »الرحيمي« اباه.. وسرت وراه.. عبرت »زقاق المدق« و»خان الخليلي« وناصية »السكرية«. وحين تعبت جلست علي »قشتمر« وكان »الحرافيش« ملء المكان.. وكان الزمان يدور كما بقعة الضوء فوق تقاطيعهم في أناه.. تبينت بين الملامح وجها لجدي - وان كان اصغر مني بعام وأكثر - فزعت اليه.. وارسيت رأسي علي كتفيه.. ودثرت جسمي بقفطانه.. واطرقت مستندا بعصاه.. وكانت تتابعني من قريب: عيون نجيب. أتانا الخريف بسمانه.. فعدت سريعا إلي القاهرة - وكانت عروس الثلاثين من عمرها - ومحجوب يرمقها باشتهاء.. وفي عمق اعينها الساحرة.. تلألأ مجلسنا في المساء.. ودارت نراجيلنا الفائرة.. وما بين رقص وبين غناء.. لمحت مظاهرة هادرة.. يعانق فيها الهلال الصليب.. وأبصرت »فهمي« يطل علينا من الخاطرة.. ينادي تعيش بلادي.. ويسقط مشتملا بدماه.. ورحت أقدم فرض العزاء.. وبعد مصافحة السيد.. وجدت »نجيب« يربت بالود فوق يدي. ثلاثية العز.. عدنا إلي ذكرياتك.. ننقب عنا علي صفحاتك.. ونجمع تاريخنا من رواتك.. ورا شربياتك الخشبية راحت تصب لنا الشاي »عائشة« وهي تحكي.. و»ياسين« ليس يكف ضجيجه.. فتنهره في دلال »خديجة«. ذهبنا جميعا إلي حارتك.. وصاح الفتوة: هل من منازل.. لزمنا السكوت.. وشبت علي الطرقات المنازل.. وأصدقك القول خفنا كثيرا. وراحت »نفيسة« تبكي جواري.. وجاء الينا حفيف الحواري: ألم يك »عاشور« منكم وفيكم.. ألم يكن الطيبة المستبدة.. والامن حين تمور الضواري.. وصاح الفتوة فينا.. فلذنا بناصية الانتظار.. ولما يئسنا انبريت اليه وقلت: حذاري.. فأحني الفتوة نبوته.. وأعلن من فوره الانسحاب.. وعاد الي سطره في الكتاب. تفرجت يا شيخنا في كتابك.. فمن درب »قرمز« كان الخروج.. وجاءوا جميعا وقوفا ببابك.. ومن هم ومن نحن؟ هم نحن أو نحن هم.. ما اختلفنا. وكانوا فكنا شديدي الحضور.. هتفنا بك افتح.. فتحت.. دخلنا.. وكانت مقاعدنا في السطور.. تصفحت كراسة النيل بين يديه.. فصارت رشيد يساري.. ودمياط نحو اليمين.. وخلفي تلال المقطم.. ودوني الحسين مضيء الجبين.. سعيت اليه.. فحال الدراويش بيني وبينه.. وطوفان سابلة ليس يهدأ في دربنا الضاج منذ قرون تري هل »يزيد« بدايته في حديث الصباح يكمله في حديث المساء »سرور« تقابلت و»الزعبلاوي« اخيرا.. وكنت اطارده من شهور ووجها فوجها.. بدا كل شخص رويت تفاصيله في الظهور. وفي لمة الشمل دارت »أمينة« لتنفث في الجمع سر البخور. فما كان أجدرنا بالحسد.. ونحن حواليك مثل »المرايا«.. تشير علينا.. اليك نشير. تصوب زهرك نحو ربانا - وانت تحلق كالطير في طبقات سمانا - فترتد منا اليك الزهور. هناك علي رفرف عبقري.. ستأتيك في كل يوم بلادي بوجه صغير صغير كبرعم.. تربيه في ردهات الحلُم.. تسميه.. ترسمه في العيون.. فينمو نباتات عشق بكل جبين. ويمتد في كل صوب وحدب غصونا محملة بالحنين. وينضج منفرطا كالسنابل فوق خريطة مصر: حنانا وحبا وحسنا وحقا.. ناسا علي ارضنا طيبين«. كانت هذه قصيدتي في حب نجيب محفوظ العظيم المتواضع شأن كل العظماء الحقيقيين الذي اثروا حياتنا بفكرهم الخصب.. واناروا عقولنا ووجداناتنا بكلماتهم التي سوف تظل في ذاكرة هذه الامة التي لا تنفك تلد العباقرة.. انها مصر التي نشأت علي ضفاف نيلها المدنية الام في كوكب الارض.. وترعرعت الحضارة الاولي في تاريخ البشر.. ولكم انجبت تربتنا الطيبة من عباقرة أفذاذ عادوا اليها بأجسادهم.. ولكن ظلت أرواحهم عبقا نتنفسه.. ويسري في دمنا مع غاز الحياة ويصل إلي أصلابنا حيث يضع علي جينات من سوف يمشون علي نفس أزقتنا وحوارينا وشوارعنا بصمات الاصالة المصرية وسمات تفردها.