أحمد طه النقر يقولون "مَن عاشر قوما أربعين يوما صار منهم"..ويقولون أيضا إن "الطبع يغلب التطبع".. هذا الكلام ينطبق تماما علي الرئيس محمد مُرسي لأنه لم يعاشر الإخوان المسلمين لمدة اربعين يوما فقط ، بل إنه أيضا تربي بينهم وتشرب أفكارهم وسياساتهم وتطبع بطباعهم لمدة اربعين عاما أو يزيد.. ومن هنا نظلمه كثيرا إذا طلبنا منه أن يخلع عباءة الإخوان ويتنكر لتاريخه وانتماءاته مرة واحدة وإلي الأبد..وربما أذهب الي حد الزعم أن أحدا منا لا يطلب منه ذلك لأن هذا شأنه وحده وهو حر تماما في إختيار آرائه وأفكاره ومعتقداته..ولكن الدكتور محمد مُرسي صار رئيسا لجمهورية مصر ..وما أدراك ما رئاسة مصر.. أم الدنيا وصانعة الحضارة وفجر الضمير لكل الإنسانية..ثم ما أدراك ما رئاسة مصر بعد ثورة وُصفت بأنها الأعظم في تاريخ البشرية وجاءت بأول رئيس مدني أقسم اليمين الدستورية علي بعد أمتار من مستشفي يرقد فيه آخر فرعون علي سرير سجنه!!..وحقق مُرسي ، المعتقل السابق ، هذا الإعجاز المُذهل ليس بأصوات الإخوان والسلفيين فقط وإنما بأصوات القوي المؤمنة بالثورة والرافضة لعودة نظام مبارك في شخص مرشح من رجاله..وكانت نتيجة جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية كاشفة إلي حد بعيد إذ بينت أن هناك نحو ثمانية ملايين ناخب من غير أنصار الإسلاميين حسموا النتيجة لصالح المرشح الإخواني.. ومع ذلك فإن الدكتور مُرسي لم يحصل إلا علي تأييد نحو ربع القوة الانتخابية لمصر (حوالي 15 مليون ناخب).. ولكن ذلك لا يقلل بأي حال من شرعية الدكتور مُرسي ، فهو الرئيس الشرعي لكل المصريين بلا منازع وواجبة طاعته ومساندته فرض علي الجميع ما بقي متمسكا وملتزما بأهداف ومباديء ثورة 52 يناير وهي الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم.. ومن التجني والظلم تقييم أداء رئيس للجمهورية قبل مرور اسبوعين علي توليه منصبه في ظروف يعلم الجميع مدي حرجها وتعقيدها..ولكن من حقنا مناقشة الرئيس في ترتيب الأولويات وخاصة أنه ألزم نفسه أمام قوي وطنية وثقت فيه وأيدته علي تعهدات محددة وقاطعة من جانبه لم ينفذ منها شيء حتي الآن.. تعهد بأن يكون رئيسا لكل المصريين وبأن يعين نوابا بصلاحيات واضحة من المسيحيين والمرأة والشباب وبأن يشكل حكومة وحدة وطنية برئاسة شخصية مستقلة..وبأن يعيد تشكيل الجمعية التأسيسية الخاصة بالدستور.. هذه أولويات فائقة الاهمية كنا نتمني أن يبدأ الرئيس مُرسي بها فورا، بعد ترتيب القصر الرئاسي واختيار هيئة المستشارين، وقبل اتخاذ أي قرار علي الصعيدين الداخلي والخارجي.. ولكن الرئيس لم يعين حتي كتابة هذه السطور مستشارا سياسيا يحدد أولويات السياسة الخارجية لمصر الثورة، واتخذ قرارا بالغ الخطورة والدلالة بأن تكون أول زيارة خارجية له الي السعودية وهو ما أثار كثيرا من الشكوك في حسن تقدير الرئيس لأولويات الامن القومي المصري.. وإذا كان من المسلم به أن أهم ركائز الأمن القومي لمصر هي نهر النيل والوحدة الوطنية.. فقد كان علي الرئيس أن يستهل قراراته وتحركاته داخليا وخارجيا بفتح هذين الملفين وخاصة أنهما ملتهبان.. ولو كان الرئيس قد دخل القصر الرئاسي مصحوبا بهيئة مستشارين رفيعي المستوي يتم اختيارهم علي أساس الخبرة والكفاءة وليس الولاء والثقة ، كما يفعل الرؤساء في كل الدول المحترمة، لما كان هذا الخلل الجسيم في ترتيب الاولويات قد حدث مع التسليم بأهمية واستراتيجية العلاقات مع السعودية..كل ما فعله الرئيس هو اختيار مساعدين فقط هما المتحدث المؤقت باسمه ومستشاره القانوني، وهما من الإخوان المسلمين..وربما كان ذلك الوجود الإخواني حول الرئيس والاستماع الي نصائح الجماعة وتنظيمها الدولي هو سبب الخطأ الرئاسي الاول في السياسة الخارجية والذي قد يتحول الي خطيئة وربما خطايا يصعب غفرانها أو علاجها ما لم يسارع الرئيس بالوفاء بعهوده واتخاذ قرارات مسئولة ومدروسة جيدا تليق به كرئيس لكل المصريين.. ولو كنتُ مكان الرئيس مُرسي لكان قراري الأول هو اختيار المستشارين لضمان سلامة ترتيب الأولويات ثم إستخدام سلطاتي للإفراج الفوري عن كل المعتقلين السياسيين والمحكومين علي ذمة المحاكمات العسكرية ، وليس فقط تشكيل لجنة لبحث الامر.. وبعد ذلك إعادة تشكيل الجمعية التأسيسية حتي نضمن وضع دستور يعبر عن روح ومباديء وقيم حضارة مصر وثورة 52 يناير.. فالدستور هو الاستحقاق الأهم الذي يواجهنا الآن..ولو وفي الرئيس بعهوده للقوي الوطنية فربما كنا قد أعفينا أنفسنا من مطالعة اقتراحات كارثية مثل "مصر دولة شورية.... ترتبط بأفريقيا".. أي أن مصر ليست دولة افريقية وتلك جريمة في حق أمننا القومي لا يرتكبها إلا جاهل لا يستحق أن يكون في لجنة المائة!!.. نعم..لم يكن الرئيس موفقا عندما استعجل شد الرحال الي السعودية قبل ترتيب البيت فأخطأ الاتجاه والتوجه.. كما أخطأ عندما قرر عودة البرلمان متحديا حكم الدستورية ببطلانه مما فجر جدلا قانونيا ودستوريا كان يمكننا تفاديه.. وأعتقد أن الدكتور مُرسي ارتكب هذه الاخطاء في هذه الفترة القصيرة لأنه لا يزال يستمع لنصائح ، ولن أقول تعليمات، الجماعة..وأري أنه لن ينجح كرئيس لكل المصريين إلا عندما يستشير ذوي الاختصاص والخبرة ، ويتحرر من تأثير الجماعة وحلفائها.. وذلك سيعفيه علي الاقل من تحمل وزر حماقات وجرائم خطيرة كان آخرها عدوان "همجي" شنته ميليشيات منظمة علي شخصيات وطنية ونواب بارزين معارضين لسياسة الإخوان ومواقفهم، وهي جريمة كنا نود أن نسمع إدانة واضحة لها من أول رئيس مدني لمصر الثورة ..ولكن يبدو أن حوائط القصر الرئاسي أكثر سمكا مما نتصور!!..