في الوقت الذي تئن فيه البلاد وتنزف دما غزيرا بسبب جرائم نظام حسني مبارك وفلوله التي لا تتوقف ولا تكل لخنق الثورة وإعادة عقارب الساعة الي الوراء، تتفرغ عصابات منظمة ومجرمون محترفون لتخريب تاريخ مصر وحرمانها من تراث فريد وثروة قومية لا تقدر بثمن ولا يمكن تعويضها إن ضاعت. لا أتحدث هنا فقط عن العدوان علي الارض الزراعية وتجريفها وتحويلها بليل الي غابات من الاسمنت المسلح في هجمة ضارية لا يتصدي لها أحد بمسئولية وجدية ، سواء من المجلس العسكري أو الحكومة، وهو ما أعطي الانطباع لهؤلاء اللصوص والمخربين بأن هذه هي فرصتهم التاريخية لتحقيق مآربهم.. بل أتحدث أيضا عن جريمة أبشع تستهدف تراث مصر من القصور الاثرية والفيلات التاريخية التي تتعرض للهدم ، أو التخريب تمهيدا للهدم ، لكي تقوم علي أطلالها ابراج سكنية و"مولات تجارية".. وأكاد أجزم أن لدي كل منا عشرات الأدلة الحية والدامغة علي مثل هذه الجرائم.. فمَن منا لا تصدم عينه كل يوم مشاهد عمارة تقوم فجأة وعلي عجل علي ارض زراعية خصبة أو علي جثة فيلا أو قصر أثري تم هدمه تحت جنح الظلام كعهدنا بأعمال اللصوص..وأخطر ما في هذه الجرائم أنها تخلق أمرا واقعا سيصعب التعامل معه عندما تخرج البلاد من مأزق المرحلة الانتقالية الحالي ، ويجيء رئيس منتخب وحكومة جديدة يكون علي رأس أولوياتهما فرض القانون بالقوة والقضاء علي أعمال البلطجة والانفلات وكل مظاهر الخروج علي القانون.. عندئذ سيكون من اليسير أو الممكن التصدي للمخالفات القابلة للإزالة مثل احتلال الشوارع والعدوان علي الارصفة من جانب الباعة الجائلين أو اصحاب المقاهي والمطاعم.. وكذلك المخالفات المرورية التي بلغت حد السير في الإتجاه المعاكس، وهي جريمة تعاقب بنفس عقوبة القتل في بعض الدول.. ولكن لن يكون من السهل هدم بيت أو عمارة أو برج سكني حتي ولو كان مخالفا.. وهنا تبرز أهمية أن يتحرك الآن وفورا الذين يعنيهم الامر في المجلس العسكري والحكومة، وخاصة المحافظين ومسئولي المحليات ، ليتحملوا مسئولياتهم ويعلنوا بشكل واضح لا لبس فيه ، بل بصورة يومية متكررة عبر وسائل الإعلام المختلفة، بأن هذه أعمال مُجرَّمَة وأن المباني المخالفة ستهدم فورا علي نفقة أصحابها الذين سيتعرضون لأشد وأقسي عقاب ممكن.. وذلك حتي يكون هناك بعض الردع الفوري لهؤلاء المجرمين واللصوص.. وحتي يمكننا القول "لقد أعذر من أنذر"!!.. ويبقي أن يقوم المواطنون بواجبهم في التصدي لمثل هذه الجرائم بشتي الوسائل ومنها الإبلاغ عن هذه الجرائم لدي الجهات المسئولة.. ومنذ يومين شجعت مواطنا يسكن خلف محافظة الجيزة ، وكان يشكو من أن إحدي العمارات الجديدة في شارع أحمد كامل التهمت نصف الرصيف، علي الذهاب الي مكتب المحافظ والإبلاغ عن هذه الجريمة.. وعندما لا حظت تردده ، قلتُ له دون تردد "إذا لم يتحرك المحافظ لإزالة مخالفة سافرة وفاجرة بهذا الشكل خلف مبني المحافظة فسيكون مقصرا بل مشاركا في الجريمة.. أما أنت فستكون قد أديتَ واجبك كمواطن صالح وهذا أضعف الإيمان".. وحتي أشُدَ من أزر هذا المواطن وأشجعه ولا اتركه يغرق في تردده ، ضربتُ له المثل بكتيبة رائعة من حماة الوطن والتراث في مدينة الاسكندرية ، منهم الدكتور مختار الكسباني استاذ الآثار، يتصدون بجسارة وإخلاص لجريمة تخريب منظمة تتعرض لها المدينة، التي كانت من أجمل مدن البحر المتوسط ، لحرمانها من كنوز لا تقدر بثمن تتمثل في تراث فريد من القصور والفيلات والمسارح التاريخية والأثرية.. ويشارك في هذه الجريمة المنظمة مقاولون ورجال أعمال وسماسرة واصحاب مصالح مسلحون بمليارات خليجية جاءت بكل جهل وجهالة الصحراء لتنشر القبح والتصحر في ارض واحدة من أقدم مدن التاريخ وأروعها علي الإطلاق، فضلا عن إطلاق اسمها علي اكثر من مائة مدينة في أنحاء العالم!!.. ويكفي الإشارة الي بعض المعالم التي فقدناها في هذه المدينة العتيقة في إطار مسلسل هدم كل ماهو ثمين وجميل فيها منذ ثمانينيات القرن المنصرم..فقد تم هدم مسرح كوته ومسرح اسماعيل ياسين الذي أقيم علي اطلاله برج سكني.. ويتم التمهيد لهدم مسرح محمد عبد الوهاب ..كذلك تم هدم عمارة شيكوريل الاثرية التي بناها رجل الاعمال اليهودي المعروف منذ اكثر من مائة سنة!!.. وإذا أضفنا الي كل ما سبق المخطط الجهنمي الذي كان يستهدف هدم جامعة الاسكندرية وبيع أرضها لرجال أعمال خليجيين ليشيدوا مكانها مدينة تضم العديد من الابراج السكنية والتجارية، وهو المخطط الذي نجحت كوكبة من اساتذة الجامعة والنشطاء السياسيون في إجهاضه في مهده ، سندرك حجم المؤامرة التي يتعرض لها تراثنا وحضارتنا..والأدهي من ذلك أن سرطان الهدم وصل الي القصور الاثرية في محافظات الصعيد وخاصة المنيا واسيوط..ولكن لا يتعين أن ننسي أن هذا التخريب والتجريف المنظم للارض والحضارة ولكل القيم النبيلة هو التجلي الابرز والإنجاز الأهم لعصر من الجهل قاده حسني مبارك ..ويكفي أن ما حققه من كوارث في هذا الشأن فاق كل خيال.. فلم يكن أشدنا تشاؤما يتصور أن ما تخيله المبدع الراحل اسامة انور عكاشة، عاشق الاسكندرية المتيم، في مسلسله الرائع "الراية البيضاء" يمكن أن يحدث علي أرض الواقع.. ولكن ذلك حدث بالفعل وتم هدم فيلا الدكتور ابو الغار الحقيقية.. نعم.. انتصر جهل وقبح فضة المعداوي ولكن شعب مصر صانع الحضارة وحارسها لن يسكت أو يرفع الراية البيضاء.