بورسعيد..المدينة الاستثناء.. ثمرة الزواج المبرر بين التاريخ والجغرافيا، السياسة والاقتصاد، والإنسان والطبيعة. ربيبة البحر والبحيرة والقناة: البحر الأبيض وبحيرة المنزلة وقناة السويس.. جامعة حضارات القارات الثلاث: أفريقيا، آسيا وأوروبا. بحكم الموقع والموضع والمرحلة صنعت شخصيتها الفريدة. شخصية تفردت بجمعها لكل خصائص المصريين من مشرقها إلي مغربها، ومن شماليها إلي جنوبيها. شخصية التقطت المفيد النافع من ثقافات الآخر، ولفظت الكثير الجم من مساوئه. إلي جوار الشخصية الفريدة ميزت هذه المدينة أيضاً بمعمارها المدهش تخطيطاً وتنظيماً وبناءً. هو معمار مدهش بالفعل. ذهب مهندسوه وبناءوه ومواده، وما عادت مقومات بناء معمار يماثله متاحة أو ممكنة. إنه معمار القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. علي الرغم من أنه لم يمض علي هذا المعمار سوي قرن ونصف القرن منذ أول خيمة نصبت فيها أو كشك ثبت فوق أرضها، فإن معاول الهدم وبلدوزرات التجريف أخذت، حتي قبل اكتساح تيارات العولمة لمورثنا الثقافي والقيمي، تبدد هذا الكنز الذي لا يقدر بثمن مقابل بضعة ملايين من الجنيهات تنثرها آله الرأسمالية الجشعة، وأيادي الاستثماريين الأجلاف، فوق رءوس وأمام أعين ملاك العمائر التي لا نظير لها في العالم. نعم.. لا نظير لعمائر بورسعيد في العالم؛ فكما أثبت مهندسون متخصصون وأثريون عالميون، لا توجد في العالم كله مدينة بها عمائر خشبية مكونة من أربعة وخمسة طوابق مأهولة بالسكان حتي الآن. إن طُرز هذه العمائر إنسانية في المقام الأول قبل أن تكون أوربية أو مصرية أو إسلامية، وإن كانت كذلك بالفعل؛ وفنار بورسعيد هو الفنار الخرساني الأول مثمن الأضلاع الذي يبلغ طوله 185 قدماً علي مستوي موانئ للكرة الأرضية كلها، إذ أقيم في العام 1868م. وما من فنار يماثله سوي واحد وحيد بني بعده بأعوام طوال بالساحل الجنوبي البريطاني. الفنار البريطاني صار مزاراً يرتاده السياح والأثريون، وفنارنا مازال رهين التجافي والإهمال؛ وكم طالبت وناشدت وصرخت للحفاظ عليه وعلي حرمه وعلي وظيفته، لكن طغيان المعمار الحديث.. المعمار المشوه.. وتجاهل المسئولين: إداريين وأثريين ومثقفيين، ترك الفنار لتحاصره الأبراج السكنية الشوهاء وتخنقه، فتعطلت وظيفته تماماً، واحتله بعض الإداريين وسكنته بعض الأسر، وفي وقت احتشد فناؤه بالعشش.. نعم العشش.. عشش كرتونية شوهاء أقامها من لا مساكن لهم، ظلوا بها إلي أن قامت المحافظة بتدبير وحدات سكنية لهم.. ولأنني أخشي علي هذا الأثر الفريد الذي لا أعلم هل أدرج في سجل الآثار المصرية أم لا، فقد ناديت وما زلت أنادي بالاعتناء به وتحويله إلي متحف لقناة السويس أو للملاحة البحرية أو لموانئ البحر المتوسط الصديقة، أو للأحياء المائية، أو للمدن المقاتلة.. لكن صيحاتي ذهبت أدراج الرياح فإغراءات الكسب السريع أقوي وأشد تأثيراً. في بورسعيد مئات العقارات فريدة الطرز، ما بين عمارات سكنية ومساجد وكنائس ومبان إدارية، كلها متركزة في الأحياء الثلاثة القديمة الإفرنج (الشرق)، العرب، وبورفؤاد، ولأنه لا أحد من المسئولين يحمي ويتابع، فقد جرف أكثرها جرفاً.. وما لم تدمره الحروب مثل مبني البريد المركزي تلك التحفة المعمارية الفريدة دمروه هم. دمروا المسجد التوفيقي الذي افتتحه الخديو توفيق، وأزالوا سقف المسجد العباسي الأثري الذي ينتسب لعباس حلمي الثاني، وكادوا يدمرونه لولا وقفة لحقت ما بقي. دمروا فندق وكازينو بالاس، الفندق الذي أمه المشاهير من قادة العالم والوطن، هدموا البيت "الحديد" هو ومبني ماركوني أقدم مبني حجري في المدينة ومبني الحجر الصحي، والنادي المالطي، وخربوا مبني سيمون آرزت وفندق ناسيونال وسينما الأولدرادو ومسرح الليرا والبوستة الفرنسية وسوق عباس والبزار؛ وأزالوا نحو خمسة عشر داراً للسينما، واكتسحوا الفيلات ذوات الأسقف القرميدية والحدائق.. وغيرها.. وغيرها.. ومازالت الآت الهدم تهدم والآت التجريف تجرف؛ حتي ما هو أحدث كساحة النصر دمروها هي والنسر المنحوت من الحجر الصناعي الذي كان يعلو مسرحها فتتوه، ومنحوتات جمال السجيني الجدارية أضاعوها، وصالة محطة القطارات شوهوها هي ولوحتيها الجداريتين الفريدتين غطوها بالقذر، حتي الفارماشية طمسوا ذكرها طمساً. في العام 2008م. تمكنت لجنة متخصصة تابعة للجهاز القومي للتنسيق الحضاري من حصر 1500 مبني ينبغي الحفاظ عليها طبقاً لما نص عليه القانون رقم 144 لسنة 2006م. في مواده التي تحتم الحفاظ علي التراث المعماري، ولو علمتم أن المحافظة قامت بتقليص هذا العدد، الذي يراه أعضاء الحملة أقل مما هو في الواقع، إلي 900 مبني فقط، وقبل ذلك كانت قد قصرت حصرها عل 69 مبني دون غيرها (!!)، بالإضافة إلي أن محافظ بورسعيد لم يوقع حتي الآن قائمة الحصر هذه ليتم اعتمادها من مجلس الوزراء، وإلي توالي تراخيص الهدم والسماح لكثيرين بتخريب مبانيهم حتي يسهل استخراج هذه التراخيص، لو علمتم هذا لأدركتم حجم الضغوط الهائلة التي تمارس علي الإدارة المحلية، وتمارسها الإدارة المحلية، لعرقلة الجهود الرامية إلي إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا التراث المعماري الفريد. نعم.. صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1947 لسنة 2009م. بتسجيل 139 عقاراً بحي بورفؤاد بسجلات التراث المعماري للمحافظة، لكن صدور هذا القرار وحده يكشف الجريمة التي ترتكب بحق التراث المعماري لمحافظة بورسعيد، يثير مجموعة من الأسئلة من نوع: هل هذا هو العدد الحقيقي فعلاً للعقارات الجديرة بالتسجيل في هذه السجلات؟.. وأين سائر العقارات التي يعود تاريخها إلي تاريخ نشأة الحي، ومنها الكثير الذي لم تطله بولدوزرات الهدم، ومنها ما يتبع هيئة قناة السويس؟.. ولماذا لم تسجل سائرعقارات بورفؤاد القديمة كلها بهذا السجل؟.. وما الداعي إلي تسارع صدور تراخيص الهدم؟.. وماذا عن عمائر حي الافرنج وحي العرب؟.. أسئلة وأسئلة ولا أجوبة شافية.. نسمع الكلام المريح ولا نجد تنفيذاً. من لا يصدق عليه الرجوع إلي العدد رقم 32 من الجريدة