علي امتداد التاريخ اكتسبت مصر أهميتها من موقعها الجغرافي, ولا تزال, كانت حركة التجارة تمر دائما من أسيا إلي أوروبا عبر مصر, تتوقف المراكب علي شواطئ البحر الأحمر حيث يتم تفريغ البضائع, لتحملها الجمال وتمضي بها إلي البحر المتوسط لتعيد مراكب أخري تحميلها والإبحار بها شمالا ناحية أوروبا. لكن هذا الوضع لم يستمر حين اكتشف البرتغالي فاسكو دي جاما طريق رأس الرجاء الصالح عام1469, حيث تحولت التجارة إلي هذا الطريق, ولم تعد تمر عبر مصر, التي افتقدت أهميتها كحلقة ربط بين قارات العالم القديم, بالتوازي مع تحولها من عاصمة للعالم الإسلامي إلي ولاية من ولايات الإمبراطورية العثمانية. لم يظل التاريخ علي سيرته, وجاء الضابط محمد علي ليبني مصر الحديثة, ويناطح الدولة العثمانية والقوي الاستعمارية الكبري في العالم, في الوقت الذي أعاد خلفاؤه الأهمية الجغرافية لمصر بحفر قناة السويس التي أعادت حركة التجارية العالمية مرة أخري عبر القناة, لتحافظ مصر علي دورها التاريخي كوسيط لحركة التجارة العالمية. وتلعب التجارة علي مدار التاريخ دورا مهما في تقدم الحضارات والبشر, وفي التنوع الثقافي أيضا, وفي تاريخ البشرية تمتاز الشعوب التي تطل علي أراضيها علي البحار والمحيطات, وتعبر منها وإليها حركة التجارة بأنها معبر للثقافات أيضا, فحين يكون وجهك للبحر لا تستقبل رياحه فقط, وإنما تهبط عليك كل الثقافات والحضارات المختلفة من كل صوب وحدب. هكذا عاشت مصر ألاف السنين وهي تعي معني الانفتاح الاقتصادي والثقافي والحضاري, وجنت ثمار الموقع الجغرافي الفريد, الذي وجدت فيه باعتبارها قلب العالم, كما دفعت ثمنا غاليا لهذا الموقع أيضا لأنها ظلت مطمعا لكافة القوي الاستعمارية علي مدار التاريخ. لكن التطور الكبير في وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات, تجاوز كثيرا فكرة الحدود الجغرافية, وخلقت عالما جديدا مفتوحا علي بعضه, مما دعي الدول إلي إعادة اختراع أدوراها والتفكير مجددا في الجغرافيا, بعين مفتوحة علي المصالح الاقتصادية, وأخري تحاول تعظيم المكانة الجغرافية. وفي هذا العالم الجديد الذي نعيشه تكاد تكون معظم الأسواق التقليدية قد اكتفت بما فيها من قوي تتنافس فيما بينها باستثناء أفريقيا التي لا تزال سوقا واعدة, صحيح ان الصين قد دخلت إليها بقوة, لكن الجغرافيا لا تزال ناجحة في حالة مصر, ولا تزال قادرة علي نقل مصر نقلة جديدة في مسيرة تطورها البشري إذا هي أدركت أهمية أفريقيا بالنسبة لها, وحولت هذا الإدراك إلي إجراءات حقيقية لفتح الأسواق الأفريقية وتشجيع الاستثمار المصري بها. الطريق إلي الجنوب هو مفتاح المستقبل, ليس فقط لأن مياه النيل شريان حياتنا الوحيد يأتي منها, وإنما لأن ما بين مصر وافريقيا من تراث لا يزال صالحا للبناء عليه.. وإذا كانت مصر دولة عربية إسلامية, فإنها اكتسبت هذه الصبغة قبل نحو1400 عاما فقط, بينما هي بفعل الجغرافيا دولة أفريقية منذ ملايين السنين, وحتي قبل ان يظهر المصريون علي أرضهم ويعيشون إلي جوار نهر النيل الذي يشق القارة السمراء حتي ينتهي إلي مصر. وعلي مدار التاريخ, وباستثناء فترات عارضة, كان الخير يأتي من الجنوب, والحرب والدمار من الشمال والشرق.. وآن الآوان لنبحر جنوبا مرة أخري لأن الخير والرخاء والثروة والحب لا تأتي سوي من الجنوب. [email protected]